[ آل عمران ٣ - ٤ ] وقال ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٨ ] فبيَّن تعالى أنَّ القرآن مع كونه هُدىً في نفسه، ففيه أيضاً هدىً من الكتب المتقدِّمة التي هي هدىً وفرقانٌ.
الثالث : أن يحمل الأوَّل على أصول الدِّين، والهُدى الثاني على فروع الدِّين؛ حتَّى يزول التَّكْرَار.
قوله :﴿ مِّنَ الهدى والفرقان ﴾ هذا الجارُّ والمجرورُ صفة لقوله :« هُدىً وبَيِّناتٍ » فمحلُّه النصب، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي : إنَّ كون القرآن هُدىً وبيَّنات هو من جملة هُدَى الله وبَيِّنَاتِهِ؛ وعَبَّر عن البيِّنات بالفُرْقان، ولم يأت « مِنْ الهَدَى وَالبَيِّنَاتِ » فيطالب قالعجزُ الصَّدْرَح لأنّ فيه مزيد معنىً لازم للبيان، وهو كونه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطل، ومتى كان الشيءُ جَلِيّاً واضحاً، حصل به الفرقُ، ولأنَّ في لفظ الفرقان تَوَاخِيَ الفواصل قبله؛ فلذلك عبَّر عن البينات بالفرقان، وقال بعضهم :« المرادُ بالهُدَى الأوَّلِ ما ذكرنا من أنَّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها ». وقال ابن عطية :« اللامُ في الهُدَى للعهد، والمرادُ الأوَّلُ، يعني أنه تقدَّم نكرةٌ، ثم أُعيد لفظها معرَّفاً ب » أَلْ «، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول؛ نحو قوله :﴿ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ﴾ [ المزمل : ١٥ - ١٦ ]، ومن هنا قال ابن عبَّاس :» لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ « وضابطُ هذا أن يَحُلَّ محلَّ الثاني ضمير النكرة الأولى؛ ألا ترى أنه لو قيل : فعصاه، لكان كلاماً صحيحاً » ؟
قال أبو حيان :« وما قاله ابن عطية لا يتأتّضى هنا؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن » هُدىً « منصوبٌ على الحال، والحال وصفٌ في ذي الحال، وعطف عليه » وبيّنات «، فلا يخلو قول » مِنَ الهُدَى « - المراد به الهدى الأول - من أن يكون صفةً لقوله » هُدَى « أو لقوله » وَبَيِّنَاتِ « أو لهما، أو متعلِّقاً بلفظ » بَيِّنَاتِ «، لا جايزٌ أن يكون صفةً ل » هُدىً « ؛ لأنه من حيث هو وصفٌ، لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول، لزم أن يكون إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً كُلاًّ بالنسبة لماهيَّته، ولا جائزٌ أن يكون صفة لبيناتٍ فقط؛ لأنَّ » وَبَيِّنَاتٍ « معطوفٌ على » هُدىً « و » هُدىً « حال، والمعطوف على الحال حالٌ، والحالان وصفٌ في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصَّص بهما ذو الحال؛ إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت » بَيِّنَات « بقوله :» مِنَ الهُدَى « خصصناها به، فتوقَّف تخصيص القرآن على قوله :» هُدىً وبَيِّنَاتٍ « معاً، ومن حيث جعلت » مِنَ الهُدَى « صفةً ل » بَيِّنَاتٍ «، وتوقَّف تخصيص » بَيِّنَاتٍ « على هُدَى، فلزم ن ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محالٌ، ولا جائزٌ أن يكون صفةً لهما؛ لأنه يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهُدَى فقط، أو بينات فقط.


الصفحة التالية
Icon