فصل


قال ابن الخطيب قوله تعالى ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ جملة مركِّبةٌ من شرطٍ وجزاءٍ، فالشَّرط هو ﴿ مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ﴾، والجوءا هو الأمر بالصَّوم وما لم يوجد الشرط بتمامه، لم يترتَّب عليه الجزاء، والشهر اسمٌ للزمان المخصوص من أوَّله إلى آخره، وشهودُ الشَّهر إنما يحصُلُ عند الجزء الأخير من الشَّهر، فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنَّ عند شهود الجزء الأخير من الشَّهر يجب عليه صوم كل الشهر، وهذا محالٌ، لأنه يقتضي إيقاع الفعل في آخر الزَّمان المنقضي؛ وهو ممتنعٌ، وبهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، وأنه لا بُدَّ من صرفها إلى التأويل، وطيرقه : أن يحمل لفظُ الشهر على جزء من أجزاء الشهر؛ فيصير تقديره : من شَهِدَ جزءاً من أجزاء الشَّهر، فليصم كلَّ الشهر، فعلى هذا : من شَهِدَ هِلاَل رمَضَان، فقد شهد جُزءاً من أجزاء الشَّهر، وعلى هذا التقدير، يستقيم معنى الآية، وليس فيه إلاَّ حَمُْ لفظ الكل على الجزء، وهو مجازٌ مشهور.
ولقائلٍ أن يقولك إنَّ الزجَّاج قال : إنَّ الشَّهْر اسمٌ للهلال نفسه؛ كما تقدَّم عنه، وإذا كان كذلك، فقد زال كُلُّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره.
قال القرطبيُّ : وأعيد ذكر الشَّهر؛ تعظيماً له؛ كقوله ﴿ الحاقة مَا الحآقة ﴾ [ الحاقة : ١ - ٢ ] ؛ وأنشد على أنَّه اسمٌ للهلا قول الشاعر :[ الكامل ]
٩٤٣ب - أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ وَالشِّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
حتَّى تكامل في اسْتِدَارَتِهِ في أرْبَعٍ زَادَتْ عَلَى عَشْر

فصل


روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّ من دخل عليه الشهر، وهو مقيمٌ ثم سافر فالواجب عليه الصَّوم، ولا يجوز له الفطر؛ لأنه شهد الشهر.
وأما سائر الفُقَهَاء من الصَّحَابة وغيرهم، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السَّفَر في رمضان، جاز له الفطر، ويقولون : قوله ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾، وإن كان عامّاً يدخل فيه الحاضر والمسافر، إلاَّ أن قوله بعد ذلك :﴿ فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً، أوْ عَلَى سَفَرٍ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخَرَ ﴾ خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ.
ذهب أبو حنيفة - رضي الله عنه - إلى أنَّ المجنون، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى.
قال : لأنَّا دللنا على أنَّ الآية دلَّت على أنَّ من أدرك جزءاً من رمضان، لزمه صوم رمضان؛ فيكون صوم ما تقدَّم منه واجباً؛ فيجب قضاؤه

فصل في كيفية شهود الشَّهْر


شهود الشَّهر : إما بالرُّؤية أو بالسَّماع.
أما الرؤية : فنقول : إذا رأى إنسانٌ هلال رمضان وحده، فإما أن يرد الإما شهادته أولا؛ فإن ردَّت شهادته، وجب عليه الصَّوم؛ لأنَّه شهد الشَّهر، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد بالرؤُية، فلا شك في وجوب الصَّوم.
وأما السماع : فنقول : إذا شهد عدلا، على رسة الهلا، حكم به في الصَّوم والفطر جميعاً، وإذا شهد عدلٌ واحدٌ عللٌ واحدٌ على رؤية هلال شوَّال، لا يحكم به، وإذا شَهِدَ على رؤية هلال رمضان يحكم به؛ احتياطاً لأمر الصَّوم، والفرق بينه وبين هلال شوَّال : أنَّ هلال رمضان للدُّخول في العبادة، وهلال شوالٍ للخروج من العبادة، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان.


الصفحة التالية
Icon