والمرادُ من هذا القُرب العلمُ والحفظُ؛ على ما قال :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ [ الحديد : ٤ ] وقال ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾ [ ق : ١٦ ] وقال تعالى :﴿ مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٧ ] ونظيره : وهو بينكُمْ وبَيْنَ أعناق رواحلكم.
قال ابن الخطيب : وإذا عرف هذا فنقُول : لا يبعدُ أن يقال : إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتَّشبيه، فقد كان من مشركي العرب، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته، فإذا سألوه - ﷺ - أين ربُّنا؟ صحَّ أن يكون الجوابُ : فإنِّي قريبٌ، فإنَّ القريبَ مِنَ المتكلَّم يسمعُ كلامَهُ، وإن سألوه كيف يدعُون؛ برفع الصَّوت أو بإخفائه؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله :« فإِنِّي قَرِيبٌ »، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدُّعاء؟ صحَّ هذا الجوابُ، وإن سألوه : إنا إذا أذنبنا ثم تُبنا، فهل يقبلُ الله توبتَنَا؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله « فَإِنِّي قَرِيبٌ » أي : فأنا القريبُ بالنظر إليهم، والتجاوز عنهم، وقبُول التَّوبة منهم؛ فثبت أنَّ هذا الجواب مطابقٌ للسُّؤَالِ على كُلِّ تقدير.
قوله تعالى :« أُجِيبُ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل « قَريبٌ ».
والثاني : أنها خبرٌ ثانٍ ل « إنِّي » ؛ لأنَّ « قَرِيبٌ » خبرٌ أوَّلُ.
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعد فاء الجزاء، تقديرُه : فَقُلْ لهم إِنِّ قريبٌ، وإنما احتَجْنَا إلى هذا التقدير؛ لأنَّ المرتِّب على الشَّرط الإخبارُ بالقُرب، وجاء قوله « أُجِيبُ » ؛ مراعاةً للضمير السابقِ على الخبر، ولم يُراعَ الخبرُ، فيقالُ :« يُجِيبُ » بالغَيْبَة؛ مراعاةً لقوله :« قَرِيبٌ » ؛ لأنَّ الأشْهَرَ من طريقتي العرب هو الأولُ؛ كقوله تعالى :﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [ النمل : ٥٥ ] وفي أخرى ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ [ النمل : ٤٧ ]، وقول الشاعر :[ الطويل ]

٩٤٨ - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وسَلُولُ
ولو راعى الخبر، لقال :« مَا يَرَوْنَ القَتْلَ ».
وفي قوله :« عَنِّي » و « إِنِّي » التفاتٌ من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنَّ قبله :« وِلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ » والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ، والكافُ في « سَأَلَكَ » للنبيِّ - ﷺ - وإنْ لم يجر له ذكرٌ، إلاَّ أنَّ قوله :﴿ أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] يَدُلُّ عليه؛ لأنَّ تقديره :« أُنْزِلَ فيه القرآنُ عَلَى الرَّسُولِ - ﷺ - » وفي قوله : فَإِنِّي قَريبٌ « مجازٌ عن سرعةِ أجابته لدعوةِ داعيه، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحِسِّيِّ، لتعاليه عن المَكَان.
قال أبو حَيَّان : والعامِل في »
إِذَا « قوله :» أُجِيبُ « يعني » إِذَا « الثانية، فيكون التقديرُ : أُجِيبُ دعوَتهُ وقتَ دعائِه، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمُجَرَّد الظرفية، وأَنْ تكونَ شرطيةً، وحذف جوابها؛ لدلالةِ » أُجِيبُ « عليه؛ وحينئذٍ لا يكونُ » أُجِيبُ « هذا الملفوظ به هو العامل فيها، بل ذلك المحذوفَ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجِيزُ تقديمهُ على الشَّرط، وأمَّا » إِذَا « الأولى، فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ، والهاء في » دَعْوَة « ليست الدالَّة على المَرَّة، نحو : ضَرْبَةٍ وقَتْلَةٍ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ، نحو : رحمة ونجدة؛ فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة.


الصفحة التالية
Icon