وقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة - رضي الله عنهم - إذا نذر اعتكاف شهرٍ دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم.
فصل في أقل مدة الاعتكاف
لا تقدير لزمان الاعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة، انعقد، ولو نذر الاعتكاف مطلقاً، لخرج من نذره باعتكاف ساعة؛ كما لو نذر أن يتصدَّق مطلقاً، فإنه يتصدق بما شاء من قليلٍ أو كثيرٍ، والأفضل أن يعتكف يوماً للخروج من الخلاف، فإنَّ أبا حنيفة لا يجوِّز اعتكاف أقلَّ من يومٍ، بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر، ويخرج بعد غروب الشمس.
فصل
قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - : إذا أتى المعتكف كبيرةً، بطل اعتكافه؛ لأنَّ الكبيرة ضدَّ العبادة، كما أنَّ الحدث ضدَّ الطهارة والصَّلاة.
قوله :﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإشارة أخبر عنه بجمع، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف، لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنته آية الصيام من أوَّلها إلى هنا، وآية الصيام قد تضمَّنت عدة أوامر، والأمر بالشَّيءِ نَهِيٌّ عن ضدِّه، فبهذا الاعتبار كانت عدَّة مناهٍ، ثم جاء آخرها صريح النهي، وهو :« وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ » فأطلق على الكل « حُدُوداً » ؛ تغليباً للمنطوق به، واعتباراً بتلك المناهي الَّتي تضمَّنتها الأوامر، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ المأمور به لا يقال فيه « فَلاَ تَقْرَبُوهَا ».
وقال أبو مسلم الأصفهانيُّ :« لاَ تَقْرَبُوهَا » أي : لاَ تَتَعَرَّضُوا لها بالتغيير؛ لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ الإسراء : ٣٤ ].
قال أبو البقاء : دُخُولُ الفاء هنا عاطفةٌ على شيء محذوفٍ، تقديره :« تَنَبَّهُوا فَلاَ تَقْرَبُوهَا »، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدةً كالتي في قوله تعالى :﴿ وَإِيَّايَ فارهبون ﴾ [ البقرة : ٤٠ ] على أحد القولين؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب « حُدُودُ اللَّهِ » على الاشتغال؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهيٍ، نحو :« زَيْداً فَاضْرِبْهُ، وعَمْراً فَلاَ تُهنْهُ » فلمَّا أجمعت القرَّاء هنا على الرفع، علمنا أنَّ هذه الجملة التي هي « فَلاَ تَقْرَبُوهَا » منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.
والحُدُودُ : جمع حدٍّ، وهو المنع، ومنه قيل للبوَّابِ : حدَّاد، لأنَّه يمنع من العبور قال اللَّيثُ - رحمه الله تعالى - : وحَدُّ الشَيْءِ منتهاه ومنقطعه، ولهذا يقال : الحَدُّ مانعٌ جامِعٌ، أي : يمنع غير المحدودِ الدُّخُول في المَحْدُودِ.
وقال الأزهريُّ ومنه يقال للمحروم، محدودٌ؛ لأنَّه ممنوعٌ عن ارِّزق، وحدود الله ما يمنع مخالفتها، وسمِّي الحديد حديداً؛ لما فيه من المنع، وكذلك : إحداد المرأة؛ لأنَّها تمتنع من الزينة.
والنَّهيُّ عن القُرْبَانِ أَبْلَغُ من النَّهْيِ عن الالتباس بالشيء؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة.