وقرأ أبو عمرو، وحفصٌ، وورشٌ « البُيُوت » و « بَيُوت » و « الغُيُوب » و « شُيَوخاً » بضمِّ أوَّلها؛ وهو الأصل، وقرأ الباقون بالكسر؛ لأجل الياء، وكذلك في تصغيره، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم؛ لأنَّ الضمة في الياء، والياء بمنزلة كسرتين؛ فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرةً، قاله أبو البقاء - رحمه الله -.
و « مِنْ » قوله :« مِنْ ظُهُورِهَا » و « مِنْ أَبْوَابِهَا » متعلقةٌ بالإتيان، ومعناها ابتداءُ الغاية، والضميرُ في « ظُهُورِهَا » و « أَبْوَابِهَا » للبُيُوت، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة؛ لأنه يجوز فيه ذلك.
وقوله :﴿ ولكن البر مَنِ اتقى ﴾ كقوله - تبارك وتعالى - :﴿ ولكن البر مَنْ آمَنَ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] يعني : تقديره : بِرُّ مَنْ آمَنَ كَمَا مَضَى؛ ولمَّا تقدَّم جملتان خبريتان، وهما :« وَلَيْسَ البِرُّ » « وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى » عطف عليهما جملتان أمريتان، الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما :« وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا » « واتَّقُوا اللَّهَ » وفي التصريح بالمفعول في قوله :« وَاتَّقُوا اللَّهَ » دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتَّقَى، أي اتَّقَى الله.

فصل في سبب نزول الآية


قال الحسن، والصمُّ : كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة، إذا همَّ بشيءٍ، فتعسَّر عليه مطلوبه، لم يدخل بيته من بابه، بل يأتيه من خلفه، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله؛ لأنَّهم كانوا يفعلونه تطيُّراً، وعلى هذا : تأويل الآية الكريمة ﴿ وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ﴾ على وجه التطيُّر ولَكِنَّ البِرَّ من يتَّقِي اللَّهَ، ولَمْ يَتَّقِ غيْرَهُ، ولم يَخَفْ شَيْئاً مِمَّا كان يتطيَّر به، بل توكَّل على الله تعالى، واتَّقَاه « ثمَّ قال :﴿ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي : لِتَفُوزُوا بالخَيْر في الدِّين والدُّنيا؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢ - ٣ ] ﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾ [ الطلاق : ٤ ] وتحقيقه : أن من رجع خائباً يقال : ما أفلح، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أنَّ الواجب عليكم أن تتَّقوا الله؛ حتَّى تصيروا مفلحين، وقد وردت الأخبار بالنَّهي عن التَّطَيُّر، قال :» لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ « وقال :» مَنْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ، فَقَدَ أَشْرَكَ « و » كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ، ويُحِبُّ الفَأْلَ الحَسَنَ « وقَدْ عَابَ الله قوماً تطيَّروا بموسى ومن معه، فقالوا :﴿ قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله ﴾ [ النمل : ٤٧ ].
وقال المفسِّرون : سَبَبُ نُزُول الآية الكريمة : كان الناس في أوَّل الإسلام، إذا أحرم الرَّجُلُ منهم، فإن كان من أهل المدن، نقب نقباً في ظهر بيته يدخل منه، ويخرج، أو يتَّخِذ سُلَّماً يصعد منه إلى سطح داره، ثم ينحدر، وإن كان من أهل الوبر، خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يخرج ولا يدخل من الباب؛ حتى يحلَّ من إحرامه، ويرون ذلك برّاً إلا أن يكون من الحمس، وهم قريشٌ، وكنانة، وخزاعة، وخيثمٌ، وبنوا عامر بْنِ صَعْصَعَةَ، وبنو نَصْر بنِ معاويةَ، وهؤلاء سُمُّوا حمساً؛ لتشديدهم في دينهم، والحماسة الشِّدَّة.


الصفحة التالية
Icon