الثاني : أنه صفة ل « حسداً » فهو في محلّ نصب، ويتعلّق بمحذوف أي : حسداً كائناً من قبلهم وشهوتهم، ومعناه قريب من الأول.
[ الثالث : أنه متعلّق ب « يردّونكم »، و « من » للسببية. أي : يكون الردّ من تلقائهم وجهتهم وبإغوائهم ].
قوله تعالى :« من بعد ما » متعلّق ب « وَدَّ »، و « من » للابتداء، أي : أنَّ ودادتهم ذلك ابتدأت من حيث وضوح الحق، وتبيّنه لهم، فكفرهم عُنَادٌ، و « ما » مصدرية أي : من بعد تبيين الحَقّ.
والحسد : تمنِّي زوال نعمة الإنسان. والمصدر حَسَدٌ.
فإن قيل : إنّ النَّفْرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه، فكيف يعاقب عليه؟
فالجواب : أن الذي هو في وصعه أمران :
أحدهما : كونه راضياً بتلك النَّفْرَة.
والثاني : إظهار آثار تلك النَّفْرَة من القَدْح فيه، والقَصْد إلى إزالة تلك النعمة عنه وجدّ أسباب المحبة إليه، فهذا هو الداخل تحت التكليف.
والحمد نوعان : مذموم ومحمود، فالمذموم أن يتمنّى زوال نعمة الله عن المسلم، سواء تمينت مع ذلك أتعود إليك أم لا؛ لأنه فيه تسفيه الحق سبحانه وتعالى وأنه أنعم على مَنْ لا يستحقّ.
والمحمود كقوله ﷺ :« لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْن : رَجُل آتاهُ اللهُ تعالى القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَار، وَرَجُلٍ آتاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ آناءَ اللَّيْلَ وَآناء النَّهَارِ ». وهذا الحديث معناه « الغِبْطة » كذا ترجم عليه البُخَاري رحمه الله تعالى.
والصَّفْحُ قريب من العفو، مأخوذ من الإعراض بصفحة العُنْق.
وقيل : معناه التجاوز، من تصفّحت الكتاب أي : جَاوَزْتُ وَرَقَهُن والصَّفُوح من أسماء الله، والصَّفُوح أيضاً : المرأة تستر وجْهَها إعراضاً؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٧٣٤ صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكَ إلاَّ بِحِيلَةٍ | فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ |
والصّفح : أزالة أثرِه من النفس. يقال : صَفَحْتُ عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صَفْحاً إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى :﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً ﴾ [ الزخرف : ٥ ].
فصل في المراد بهذه الآية
[ المراد بهذه الآية أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبيّن لهم أن الإيمان صواب وحقّ، والعالم بأن غيره على حقّ لا يجوز أن يريد ردّه عنه إلاَّ بشبهة يلقيها إليه، لأن المحق لا يعدل عن الحق إلاَّ بشبهة، والشبهة ضربان :
أحدها : ما يتّصل بالدنيا، وهو أن يقال لهم : قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم، وضيق الأمر عليكم، واستمرار المخافة بكم، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء.