قوله تعالى :﴿ فِي سَبِيلِ الله ﴾ متعلَّقٌ ب « قاتلوا » على أحد معنيين : إمَّا أن تقدِّر مضافاً، أي : في نصرةِ سبيلِ الله تعالى، والمرادُ بالسبيلِ : دينُ الله، لأنَّ السبيلَ في الأصل هو الطريقُ، فُتُجوِّزَ به عن الدِّين، لمَّا كان طريقاً إلى الله تعالى روى أبو موسى : أنَّ النبي - ﷺ وشَرَّف، ومجَّد، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - سُئِلَ عمَّن يُقاتِلُ في سبيل الله تعالى، فقال :« مَنْ قاتل؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا، ولا يُقاتل رياءً ولا سمعةً؛ وهو في سبيل الله »
وإمَّا أن تُضَمِّن « قَاتِلُوا » معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دِينِ اللِه تعالى، « والَّذِيِنَ يُقَاتِلُونَكُم » مفعول « قاتلوا ».
فصل في سياق الآيات
اعلم، أنَّه لمَّا أمر بالتقوى في الآية المتقدِّمة أمر في هذه الآية الكريمة بأشدِّ أقسامِ التقوى، وأشقها على النَّفس، وهو قتلُ أعداء الله تعالى.
قال الربيع بن أنس : هذه أوَّل آية نزلت في القتال، وكان رسولُ الله - ﷺ - وشرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعظَّم - يُقاتلُ مَنْ قاتلهُ، ويَكُفُّ عن قتال منْ لمْ يقاتله إلى أن نزل قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ] قاتلوا، أو لم يقاتلوا فصارت الآية منسوخةً بها.
وقيل : نُسخَ بقوله :﴿ اقتلوا المشركين ﴾ قريبٌ من سبعين آيةً، وعلى هذا، فقوله :« وَلاَ تَعْتَدُوا » أي : لا تَبْدُءوهم بالقتال، وروي عن أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أنَّ أوَّل آيةٍ نزلت في القتال قوله تعالى :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ﴾ الحج : ٣٩ ] والأوَّل أكثر.
وقال ابن عبَّاس وعمر بن عبد العزيز، ومجاهدٌ - رضي الله عنهم - هذه الآية محكمةٌ غير منسوخة؛ أُمِر النبيُّ - ﷺ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - بقتال المُقاتلين.
ومعنى قوله :« وَلاَ تَعْتَدُوا » أي : لا تقتُلُوا النِّسَاء والصِّبيانَ، والشيخَ الكبير والرُّهبان، ولا من ألقى إليكم السَّلَمَ؛ قاله ابن عبَّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبَّاس : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية؛ وذلك أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - خرج مع أصحابه - رضي الله عنهم - إلى العُمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة، فنزَلُوا الحُديبة، وهو موضعٌ كثيرُ الشَّجر، والماء، فصدَّهم المُشركون عن دخول البيت الحرام، فأقامَ شهراً، لا يقدرعلى ذلك، ثم صالَحُوهُ على أنْ يَرجع ذلك العام، ويرجع إليهم في العام الثَّاني، ويَتْرُكون له مكَّة ثلاثَ أيامٍ، حتَّى يَطوفَ، وَيْحَرَ الهَدْي، ويَفْعَل مَا يَشَاءُ، فرضي الرَّسُولُ - صلواتُ الله وسلامُهُ عليه دائماً أبداً - بذلك، فلمَّا كان العامُ المقبل، تجهَّز رسولُ الله - ﷺ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - وأصحابه لُعْمرة القضاء وخافوا ألاَّ تَفِي قريشٌ بما قالوا، وأن يَصُدُّوهم عن البيت، وكره أصحابُ رسول الله - ﷺ - قتالَهُمْ في الشهر الحرام، وفي الحرَم، فأنزل الله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله ﴾ يعنى محرمين ﴿ الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ يعني قُرَيْشاً « وَلاَ تَعْتَدُوا » فتَبْدَءوا بالقتالِ في الحَرَمِ محرمين.