فأما قراءة الجمْهُور فواضحةٌ؛ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل؛ فدلالتها على النَّهي عن القَتْل بطريقِ الأَولى، وأمَّا قراءةُ الأخوين، ففيها تأويلان :
أحدهما : أن يكون المجازُ في الفعل، أي : ولا تَقْتلُوا بَعْضَهُمْ؛ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ؛ ومن ﴿ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ ﴾ [ آل عمران : ١٤٦ ] ثم قال « فَمَا وَهَنُوا » أي ما وَهَن مَنْ بَقِيَ منْهُمْ، وقال الشاعر :[ المتقارب ]

٩٧٠ - فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ وإن تَقْصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ
أي : فإنْ تَقْتُلُوا بعضنا. يروى أن الأعمش قال لحمزة، أرأيت قراءتك، إذا صار الرجُلُ مَقْتُولاً، فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره؟!
قال حمزة : إنَّ العَرَبَ، إذا قُتِلَ منهُم رجلٌ قالوا : قتلنا، وإذا ضَرِبَ منهُم رجلٌ، قالُوا ضُرِبنا وأجمعوا على « فَاقْتُلُوهُمْ » أنَّه من القتل، وفيه بشارةٌ بأنَّهم، إذا فعلوا ذلك، فإنهم مُتَمَكِّنون منهُمْ بحيثُ إنكم أُمِرْتُم بقتلهم، لا بقتالهم؛ لنُصْرتِكُمْ عليهم، وخذْلانِهِمْ؛ وهي تؤيِّدُ قراءةَ الأخوينِ، ويؤيِّدُ قراءة الجمهور :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله ﴾.
و « عِنْدَ » منصوبٌ بالفعل قبله، و « حَتَّى » متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له، بمعنى « إلى » والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار « أَنْ » والضميرُ في « فِيهِ » يعودُ على « عِنْدَ » إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى غليه الفعلُ إلاَّ ب « فِي » ؛ لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها، وأصلُ الظرفِ على إضمار « في » اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعُ في الظرفِ، فيتعدَّى الفعلُ غلى ضميره مِنْ غير « في » ولا يُقالُ :« الظَّرْف غيْرُ المُتَصرِّف لا يتوسَّع فيه »، فيتعدَّى إليه الفعلُ، فضميرُهُ بطريق الأولى؛ لأنَّ ضمير الظَّرف ليس حكمه حكمَ ظاهره؛ ألا ترى أنَّ ضميره يُجَرُّ ب « في » وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه، ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله :﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم ﴾ أي : فإنْ قاتلُوكُم فيه، فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السِّيَاق عليه.

فصل


وهذا بيان بشرط كيفيَّة قتالهم في هذه البقعة خاصَّة، وكان مِنْ قبلُ شرطاً في كلِّ قتالٍ وفي الأشهر الحرم؛ وقد تمسَّك به الحنفيَّةُ في قتل الملتجيئ إلى الحرم، وقالوا : لمَّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتلُ في المسجد الحرام بسبب الذَّنب الذي هو دون الكُفر أولى.
قوله :« كَذَلِكَ جَزَاءُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الكافر في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و « جَزَاءُ الكَافِرِينَ » خبرُه، أي : مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ جَزَاؤُهُمْ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكاف اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش.
والثاني : أن يكونَ « كَذَلَكَ » خبراً مقدَّماً، و « جَزَاءٌ » مبتدأً مؤخَّراً، والمعنى : جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجَزَاءِ، وهو القتلُ، و « جَزَاءُ » مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي : جزاءُ اللَّهِ الكافرين، وأجاز أبو البقاء أان يكونَ « الكَافِرِينَ » مرفوع المحلِّ على أن المصدر مقدَّرٌ من فِعْل مبنيٍّ للمفعول، تقديرُه : كذلك يُجْزَى الكافِرُون، وقد تقدَّم لنا الخلافُ في ذلك.


الصفحة التالية
Icon