وذهب قومٌ إلى أنها سُنَّةٌ، وهو قول جابرٍن وبه قال الشعبيُّ، وإليه ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، رضي الله عنهم أجميعن.
حجةُ القولٍ الأوَّلِ أدلةٌ منها : قوله تعالى :﴿ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ﴾ والإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملً تاماً؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى :﴿ وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] أي : فعلهنَّ على التمام، والكمال، وقوله :﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ]، أي : فافعلوا لاصيام تاماً إلى الليل.
فإن قيل يحتمل أن يكون المراد أنكم إذا شرعتم فيهما، فأتموهما؛ لأنَّها تدلُّ على أصل الوجوب؛ لأنَّا إنما استفدنا الوجوب من قوله تعالى :﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ]، لا من هذه الآية، وكذا قوله :﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] إنَّما استفدنا وجوب الصوم من قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ] لا من قوله : ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ « والحجُّ والعمرةُ يجب إتمامهما بالشروع فيهما، سواءٌ أكانا فرضاً، أو تطوُّعاً، وتقول : الصوم خرج بدليلٍ، أو تقول : وجب إتمامه بالشروع، فيكون الأمر بالإتمام، مشروطاً بالشروع فيهما.
فالجواب : أنَّ ما ذكرناه أولى؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمارٍ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى إضمار؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى، ويدلُّ عليه : أنَّ أهل التفسير ذكروا أنَّ هذه الآية أول آيةٍ نزلت في الحجِّ، فحملها على إيجاب الحجِّ، أولى من حملها على وجوب الإتمام بشرط الشُّروع.
وأيضاً يؤيّده ما ذكرناه من قراءة من قرأ »
وأقِيمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ « وإن كانت شاذَّةً، لكنَّها تجري مجرى خبر الواحد.
فإن قيل : قراءة عليٍّ، وابن مسعودٍ، والشَّعبي :»
والعُمْرَةُ لِلَّهِ « بالرفع يدلُ على أنهم قصدوا إفراد العمرة عن حكم الحجِّ، في الوجوب؛ فالجواب من وجوه :
أحدها : أنها شاذَّةٌح فلا تعارض المتواترة.
فإن قيل : قد استدللتم أنتم بالشاذَّة أيضاً؟
قلنا : استدللنا بها حيث هي موافقةٌ؛ فتكون تقويةً للاستدلال، لا أنها نفس الدَّلِيل، واستدلالكم بالشاذَّة؛ نفس الدليل، وهو معارضٌ بها؛ فتساقط الاستدلالان، وسلمت المتواترة عن المعارض.
وثانيها : أن قوله :»
وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ « معناها : أنَّ العمرة عبادةٌ الله، وذلك لا ينافي وجوبها.
وثالثها : أنَّ في هذه القراءة ضعفاً في العربية؛ لأنَّها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية.
الدليل الثاني : قوله تعالى :﴿ يَوْمَ الحج الأكبر ﴾ [ التوبة : ٣ ]، يدلُّ على وجود حجٌّ أصغر، وهو العمرة بالاتفاق.
وإذا ثبت أن العمرة حجٌّ، فتكون واجبةٌ؛ لقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon