وقرأ الحَسَنُ والزُّهريُّ « نُسْك » بسكون السِّينِ، وهو تخفيفُ المضموم. وفى النَّسُك قولان.
أحدهما : أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ : نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضَّمِّ والإِسكان، كما قرأهُ الحَسَنُ.
والثَّاني : أنه جَمْعُ نَسِيكة، قال ابنُ الأَعْرَابيّ :« النَّسيكَةُ فى الأَصْلِ سَبيكة الفِضَّةِ، وتُسَمَى العبادةُ بها؛ لأَنَّ العِبَادَة مُشْبهةٌ سبيكة الفِضَّة فى صَفَائِهَا وخُلوصِها من الآثام ويُقَالُ للمتعبد » نَاسِكٌ «، لأَنَّهُ يُخلص نفسه من الآثام وصغارِها كالسَّبِيكةِ المخلَصة من الخَبَثِ وقيل للذَّبيحة » نَسيكة « لذلك لأنها أشرف العبادات التى يُتَقرَّبُ بها إلى اللَّهِ تعالى.
فصل في سبب نزول الآية
قال ابنُ عبَّاس : نزلت هذه الآية الكريمة فى كَعْب بنِ عجزة، » قال كعبٌ : مَرّبي رَسُولُ الله - ﷺ - زمن الحُدَيْبَةِ، وكان شعر رأسي كثير القَمْلِ والصَّئبان، وهو يتناثرُ وَأنَا أطيح، فرآني فَقَال - عليه السَّلامُ - :« أَتُؤْذِيك هَوَامٌّ رَأْسِكَ » قُلْتُ : نعم يا رَسُول اللَّهِ، قال :« احْلِقْ رَأْسَكَ »، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة.
والمقصود منها أَنَّ المحرم إِذَا تَأَذَّى بالمرض، أو بهوامّ رأسه؛ أُبيح له المُدَاوَةُ في الحَلْقِ بِشَرْطِ الفِدْيَةِ، وهو على التَّخْيير بينَ أن يذبح، أو يَصُومَ، أو يَتَصَدَّق، فَأَقَلّ النُّسُكِ شَاةٌ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، وأعلاه بَدَنَةٌ. وأمَّا الصِّيامُ، فليس فى الآية كمِّيته، وفيه قولان :
أحدهما : أنَّه ثَلاَثَةُ أَيَّام؛ لما رَوَى أَبو دَاودَ أنَّه - عليه السَّلامُ - « لمّا مرَّ بكعب بنِ عجْرة، وَرَأَى كثرةَ هَوَامّ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ : احْلِقْ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةٌ نُسُكاً، أَو صُم ثَلاَثَةَ أَيَّامِ أَوِ أَطْعِم ثَلاَثَة آصعِ مِنْ تَمْرٍ على سِتَّة مساكِينَ »
والثَّاني : قال ابنُ عبّاس - رضي الله عنهما - والحَسَنُ : الصِّيام كصيام المتمع عَشْرَة أَيَّامٍ، والإطعام مِثْلُ ذلك فى العَدَدِ؛ لأَنَّ الصِّيَامَ والإطعام لمّا كان مُجْمَلَيْنِ فى هَذَا المَوْضِعِ؛ وَجب حَمْلُهُ على المبيَّنِ فيما جاء بعد ذلك، وهو الَّذي يلزمُ المتمتِّعَ إذا لم يجد الهدي.
فصل
اختلفوا : هَلْ يقدّم الفدية ثمّ يترخّص، أو يُؤَخِّر الفدِية عن الترخّص، والّضي يقتضيه ظاهر الآية الكريمة؛ أنَّهُ يؤخر الفِدْيَةَ عن الترخص، لأن الإقْدَامَ على التّرخص كالعِلَّة فى وُجُوبِ الفِدْيَة، فكان مُقَدَّماً عليه، وأيضاً فقد بينَّا أنَّ تقدير الآية الكريمة : فَحَلَقَ فعليه فِدْيةٌ.
فصل
قال بَعْضُهُم هذه الآية الكريمة مختصّة بالحَصْرِ؛ وذلك إِنْ قيل أي بلوغ الهَدْي محلَّه، ربما لحقه مرض، وأذى فى رأْسِهِ، فأذن الله تعالى له فى إِزَالَة ذلك المُؤْذِي بشرط أن يَفْدِي.
وقال آخرون : بل الكَلاَمُ مستأنفٌ فى كُلِّ محرم لحقه مرض، أو أذى فى رَأْسِهِ، فاحْتَاج إلى العلاج والحلق، فبيَّن اللَّهُ تعالى أّنَّ لهُ ذلك، وبين ما يجبُ عليه من الفِدْية، وقد يَكُونُ المَرَضُ محوجاً إلى اللِّبَاسِ، من شدَّة البَرْدِ أو غيره، وقد يحتاج فى الأَمْرَاضِ إلى استِعْمَالِ الطّيب كثيراً، وبالجملة فهذا الحُكمُ عامٌّ فى جميع مَحظورات الإِحْرامِ.