وفي قوله :« رَجَعْتُمْ » شيئان :
أحدهما التفاتٌ، والآخَرُ الحَمْلُ على المعنى، أمَّا الالتفاتُ : فإنَّ قبله ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ﴾، فجاء بضمير الغَيْبَة عائداً على « مَنْ »، فلو سيق هذا على نَظْمِ الأَوَّل لقيل :« إِذَا رَجَعَ » بضمير الغَيْبَةِ. وأمَّا الحَمْلُ فلأَنَّهُ أتى بضمير جمعٍ؛ اعتباراً بمعنى « منْ »، ولو رَاعى اللَّفظ لأفردَ، فقال :« رَجَعَ ».
فصل
اختلفوا فى المراد من الرُّجوع، فقيل : هو الرُّجوع إلى الأهلِ والوَطَنِ وقال أبو حينفة المرادُ من الرُّجوع : هو الفراغُ من أعمال الحَجّ، والأخذ فى الرُّجوع، ويتفرّعُ عليه أنَّهُ لو صام السَّبْعَةَ بعدَ الفراغ من الحَجِّ، وقبل الوصول إلى بيته، لا تُجزيه على الأوَّل. وعن أبى حنيفة : تجزيه.
حجّةُ الأَوَّل : أَنَّهُ تعالى جعل الرُّجُوعُ إلى الوَطَنِ شَرْطاً، وما لم يُوجَدِ الشَّرْطُ لم يوجد المَشْرُوط، ويُؤَكِّدُ ذلك أَنَّه لو ماتَ قَبْلَ وصُوله إلى الوَطَنِ، لم يلزمه شيءٌ. وروَى ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - قال :« لَمّا قَدِمْنَا مَكَّةَ المشرفة قال النَّبيُّ - عليه السَّلام - اجْعَلُوا إِهْلاَلَكم بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْي. فطُفْنَا بالبَيْتِ، وبالصَّفَا، والمروة، وأَتَيْنَا النِّسَاءَ، ولبسنا الثِّيَابَ، ثُمّ أمرنا عشية التَّرْوية أنْ نُهِلّ بالحجّ فإذا فرغنا قال - عليه الصلاة والسَّلام - عَلَيْكُمْ الْهَديَ، فإِنْ لَمْ تَجِدُوا؛ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فى الحَجِّ، وسَبْعَة إِذَا رَجْعَتُم إِلَى أَمْصَارِكُمْ »، وأيضاً فإنَّ الله - تعالى - أسقطَ صَوْمَ رَمَضَانَ عَن المُسَافِرِ، فصوم التَّمَتُّع أخفّ شأناً منه.
وقوله :« تِلْكَ عَشَرَةٌ » مبتدأ وخبرٌ، والمشار إليه هي السَّبعة والثَّلاثة، ومُمَيِّزُ السَّبعة والعشرة محذوف للعلم به. وقد أثبت تاء التأنيث فى العدد مع حذف التَّميز، وهو أحسن الاستعمالين، ويجوز إسقاط التَّاء حينئذٍ، وفي الحديث :« وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ »، وحكى الكسائيُّ :« ثُمْنَا من الشَّهْرِ خَمْساً ».
وفي قوله :« تِلْكَ عَشَرَةٌ » - مع أنَّ المعلوم أنَّ الثَّلاثة والسَّبعة عشرة - أقوال كثيرة لأهل المعاني، منها قول ابن عرفة :« إن العَرَبَ إذا ذكرت عددين، فمذهبهم أن يُجْمِلُوهُمَا »، وحسَّن هذا القول الزَّمخشري بأن قال :« فائدةُ الفَذْلَكَةِ فى كُلِّ حساب : أن يُعْلَمَ العَدَدُ جُمْلَةً كما يُعْلَمُ تَفْصِيلاً، لِيُحْتَاط به من جِهَتَيْنِ، فيتأكَّد العِلمُ »، وفي أمثالهم « عَلَمَانِ خَيْرٌ مِنْ عَلَمِ ». قال ابن عرفة :« وإنما تَفْعَلُ العَرَبُ ذلك؛ لأنَّها قليلةُ المَعْرِفَةِ بِالحِسَابِ »، وقد جاء :« لا نَحْسُب، وَلاَ نَكْتُب »، وورد ذلك في أشعارهم، قال النَّابغة :[ الطويل ]