ومنها أنَّ التَّوكيد طريقة مشهورة فى كلام العرب كقوله ﴿ ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور ﴾ [ الحج : ٤٦ ]، وقوله :﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] وفائدة التوكيد أنَّ الكلام المعبَّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصِّفات الكثيرة، أبعد عن السَّهو والنّسيان من الكلام المعبَّر عنه بعبارة واحدة، وكونه معبراً عنه بعبارات كثيرة يدلُّ على كونه مشتملاً على مصالح عظيمة، لا يجوز الإخلال بها، فإذا كان التّوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالاًّ على رعاية هذا العدد فى هذا الصَّوم، فإنَّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها ألبتَّة.
ومنها أنَّ هذا الكلام يزيل الإبهام الذي في تصحيف الخطّ، فإنَّ سبعة، وتسعة متشابهان فى الخطِّ، فلمَّا قال بعده :« تِلْكَ عِشَرَةٌ كَامِلَةٌ » ؛ أزال هذا الاشتباه.
ومنها : أنَّ قوله ﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ يحتمل أن يكون المراد، أن يكون الواجب بعد الرُّجوع أن يكمل صيام سبعة أيّام، على أنَّه يحسب الثَّلاثة المتقدِّمة منها، ويكمل عيلها أربعةً، فلما قال « تِلْكَ عَشَرَة » ؛ أزال هذا الاحتمال.
ومنها : أن هذا خبر، ومعناه الأمر، أي : تلك عشرة فأكملوها ولا تنقصوها.
ومنها : أنَّه تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيَّام فى الحجِّ وسبعة بعد الرُّجوع، فليس فيه بيان أنَّه طاعةٌ عظيمة كاملة، فلمَّا قال بعده :﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ دلَّ ذلك على أنَّ هذه الطَّاعة فى غاية الكمال؛ وذلك لأنَّ الصَّوم مضافٌ إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال :« الصَّوْمُ لي »، والحجُّ أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال « الصَّوْمُ لي »، فَكَمَا دَلَّ النَّصُّ على مَزِيدِ اختصاص هاتين العبادتين بالله - سبحانه وتعالى -، فالفعل دلَّ أيضاً على ذلك.
أمّا فى الصَّوم فلأنَّه عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتَّة، وهو مع ذلك شاقٌّ على النَّفس جدّاً، فلا جرم لا يؤتى به إلاَّ لمحص مرضاة الله - تعالى - ثمَّ إنَّ صوم هذه تعني الانقياد له.
وكذا الحجّ عبادة لا يطَّلع العقل على وجه الحكمة في ألبتَّة، وهو مع ذلك شاقٌ جداً؛ لأنَّه يوجب مفارقة الأهل، والولد والتَّباعد عن أكثر اللَّذَّات، فلا جرم لا يؤتى به إلاّ لمحض مرضاة الله تعالى، ثمَّ إنَّ صوم هذه الأيّام العشرة بعضه واقعٌ في زمن الحج، فيكون جمعاً بين شيئين شاقَّين جدّاً، وبعضه واقعٌ بعد الفراغ من الحجِّ، وهو انتقالٌ من شاقِّ إلى شاقٍّ، ومعلوم أنَّ ذلك سبب لكثرة الثَّواب، وعلوِّ الدَّرجة، فلا جرم لمَّا أوجب الله - تعالى - صيام هذه الأيَّام العشرة، شهد سبحانه على أنَّها عبادة كاملة فى غاية الكمال والعلوّ، فقال تعالى :﴿ تِلْكَ عَشَرةٌ كَامِلَةٌ ﴾، أي : وإنها كاملة.


الصفحة التالية
Icon