وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رجلاً قال له : إنَّا قَوْمٌ نكري، وإنَّ قَوماً يَزْعُمونَ أنّه لا حَجَّ لنا، فقال : أَلَسْتُم تُحْرِمُونَ كما يُحْرِمون، وتَطُوفُونَ كما يَطُوفُونَ، وتَرْمُونَ كما يَرْمُونَ؟ قلتُ : بَلَى، قال : أنْتُم حُجَّاجٌ؛ وجاء رجلٌ إلى النبي - ﷺ - يسأله عمَّا سَأَلتني، فلم يَرُدُّ عليه؛ حَتَّى نزل قوله تعالى ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ فَدَعَاهُ، وقال : أَنْتُم حُجَّاجٌ.
وبالجملة فهذه الآية الكريمة نزلت رَدّاً على مَنْ يقول : لا حجَّ لِلتَّاجِرِ، والأَجِيرِ، والجَمَّالِ.
ورَوَى عمرو بن دِينارٍ، عن ابن عباسٍ : أنَّ عُكَاظَ ومِجَنَّةَ، وذا المجاز كانت أسواقاً في الجاهليِّة، يتَّجرون فيها في أيَّام الموسِم، وكانت مَعَايشُهم مِنْهَا، فلمّا جاء الإسلامُ، كرهوا أنْ يَتّجروا في الحج بغير إذنٍ، فسألَوا رسولَ الله - ﷺ - فنزلت الآيةُ.
وقال مجاهدٌ : إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بِعَرفة، ولا مِنَى، فنزلت هذه الآيةُ، فلهذا حمل أكثرُ المفسرين الآية على التجارةِ في أيام الحجِّ، وحَمَلَ أبُو مُسْلم الآية على ما بعد الحج، قال : والتقديرُ : واتقوني في كل أفعالِ الحج، وبعد ذلك ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله ﴾ [ الجمعة : ١٠ ].
قال ابن الخطيب : وهذا القولُ ضعيفٌ من وجوه، لأَنَّ قوله :﴿ فَإِذَا أَفَضْتُم مِن عَرَفَاتٍ ﴾ يدلُّ على أنّ هذه الإفاضة حَصَلَتْ بعد ابتغاء الفَضْلِ؛ لأن الفاءَ للتَّعْقيب، وذلك يَدُلُّ على وُقُوع التجارة فيى زَمَانِ الحج.
وأيضاً فَحَملُ الآية على موضع الشُبْهَة، أَوْلَى مِنْ حَمْلِها على مَوْضع لا شُبْهَةَ فيه، ومَحلُّ الشبهةِ، هو التجارةُ في زمان الحجِّ، وأَمَّا بعدَ فراغ الحجِّ، فكُلُّ أَحَدٍ يعلمُ حلَّ التجارة.
فإن قيل : وكذلك أيضاً كل أَحَدٍ يعلمُ أَنَّ الصلاةَ إذا قُضِيت، يُبَاحُ البيعُ والشِّرَاء؛ فلماذا قال :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله ﴾.
قلنا لأنه أمَر قبله بالسَّعي، ونهى عن البيع، فقال :﴿ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ﴾ فَنَهى عن البيع بعد النِّدَاءِ، فلمَّا قال بعده :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله ﴾، كأنّه قال : إِنَّ المانعَ الذي مَنَعَكُمْ من البَيْعِ قد زال؛ فانْتَشِرُوا في الأرض، وابتغُوا من فضل الله.
وأمَّا قِياسُ الحجِّ على الصلاةِ، فالفرقُ بينهما : أنّ الصلاة أعمالُها مُتَّصِلَةٌ، فلا يَحِلُّ في أثنائِهَا التشاغلُ بغيرها، وأَمّا أعمال الحج، فهي مُتَفرِّقَةٌ بعضها عن بعضٍ، ففي خلالها لا يبقى المرءُ على الحكم الأول، فتصيرُ الصلاةُ عملاً واحداً من أعمالِ الحج، لا مَجْمُوعَ الأَعْمَالِ، وأيضاً فقوله :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة ﴾ تَصريحٌ بأَنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج.