وأجاب غيره من عدم امتناع صرفها : فأنَّ هذه اللَّفظة في الأصل اسمٌ لقطع كثيرة من الأرض، كلُّ واحدة منها تسمى بعرفة، وعلى هذا التَّقدير لم يكن علماً، ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.
والثالثك أنَّ جمع المؤنث، إن كان مذكرٌ؛ كمسلمات ومسلمين، فلتنوين للمقابلة، وإلاَّ فللصَّرف؛ كعرفاتٍ.
والمشهور - حال التسمية به - إن يُنوَّن ويعرب بالحركتين : الضمة والكسرة؛ كما لو كان جمعاً، وفيه لغةٌ ثانيةٌ : وهو حذف التنوين تخفيفاً، وإعرابه بالكسرة نصباً، والثالثة : أعرابه غير منصرف بالفتحة جرّاً، وحكاها الكوفيُّون والأخفش، وأنشد قول امرئ القيس :[ الطويل ]
١٠٠١ - تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرَعَاتَ وَأَهْلَهَا | بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي |
فصل
اعلم أنَّ اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة يسمَّى يوم التَّروية، والتَّاسع : يوم عرفة، وقد تقدَّم تعليل يوم عرفة، وأمَّا التَّريوة ففيه قولان :
أحدهما : ما تقدَّم من تروِّي إبراهيم - عليه السَّلام - في منامه، من روَّى يروِّي تروية؛ إذا تفكَّر وأعمل فكره ورؤيَّته.
وقيل : إن آدم - عليه السلام - أمر ببناء البيت، فلمَّا بناه تفكَّر فقال : رب، إنَّ لكلِّ عاملٍ أجراً، فما أجري على هذا العلم؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك. قال : رب زدني، قال : لأغفرنّ لأولادك إذا طافوا به، قال : رب زدني، قال : أغفر لكلِّ من استغفر له الطَّائفون من موحدي أولادك. قال : حسبي يا ربِّ حسبي.
وقيل : إنَّ أهل مَّة يخرجون يوم التَّروية إلى منى فيروُّون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في الغد بعرفات.
الثاني : من رواه بالماء يرويه؛ إذا سقاه من عطشٍ، فقيل : إن أهل مكَّة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق، وكان الحاجُّ يستريحون في هذا اليوم من مشاقِّ السَّفر، ويتسعون في الماء، ويروون بهائمهم بعد قلَّة الماء في الطَّريق.
وقيل : إنهم يتزوَّدون الماء إلى عرفة.
وقيل : إنَّ المذنبين كالعطاش الَّذين وردوا بحار رحمة الله - تعالى -، فشربوا منها حتى رووا.
فصل في فضل هذين اليومين
دلّ عليه قوله تعالى :﴿ والشفع والوتر ﴾ [ الفجر : ٣ ]، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - :« الشَّفْعُ » ؛ يوم التَّروية وعرفة، والوتر يوم النَّحر.
وعن عبادة؛ أنه - عليه السّلام - قال :« صِيَامُ عَشْر الأضْحَى كُلُّ يومٍ مِنْها كالشَّهْرِ، ولِمَن يَصُوم يَوْم التَّروية سَنَة، وبصَوْم يوم عَرَفَة سَنَتَانِ »
وروى أنس عنه - عليه السلام -؛ قال :« مَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرويَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَثْلَ ثَوَابِ عِيسَى ابْنِ مَريمَ »