والثاني : أن « فِي » بمعنى « مِنْ » أي : من الدنيا.
والثالث : أنها زائدٌ، أي : آتِنا الدنيا، ولَيْسَا بشيء.
فصل
واعلم أنَّه بيَّن أولاً منَاسِكَ الحَجِّ، ثم أمر بَعْدَها بالذِّكْرِ، ثم بيّن بعد الذِّكْرِ كيفيَّة الدَّعَاء، وهذا من أحسن التَّرْتيب؛ فإنّ تقديم العِبَادة يكسر النَّفْسَ، وبعد العِبَادة لا بُدَّ من الاشْتِغال بذكْرِ الله، فإن به يَكْمُل الدُّعَاء؛ كما حُكِيَ عن إبراهيم - عليه السَّلام -؛ أنّه قدَّم الذِّكْر على الدُّعاء، فقال :﴿ الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ] ثم قال :﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين ﴾ [ الشعراء : ٨٣ ] ثم بيَّن - تبارك وتعالى - أنّ الَّذِين يَدْعُون فَريقان : أحدهما يطلب الدُّنْيَا، والثَّاني يطلب الدُّنْيَا والآخِرة، وقد بقي قِسْمٌ ثالثٌ وهو طلب الآخِرَةِ؛ واخْتَلَفُوا في هذا القِسْم : هل هو مَشْرُوعٌ أم لا؟ والأكثرونَ على أنّه غير مشورع؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له بآلام الدُّنيا؛ فالأولى أن يستعيذ بربِّه من كل شرِّ في الدُّنيَا والآخِرة.
روى القفَّال في « تَفْسيرِه » عن أنس - رضي الله عنه - « أن النَّبيَّ - ﷺ - دَخَلَ على رَجُلٍ يعُودُ، قد أنهَكُه المَرَضُ حتَّى صَارَ كالفَرْخ، فقال : ما كُنتُ تدعُوا الله به قَبْلَ هذا؟ قال : كُنْتُ أقُولُ : اللَّهُمَّ ما كُنتَ تُعاقِبني به في الآخِرة فَعَجِّل بِهِ في الدُّنْيا، فقال النبيُّ - عليه السلام - : سبحان الله!! إنّك لا تُطِيقُ ذلك؛ هلا قُلْتَ :» ربنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة وفي الآخِرَةِ حَسَنَة وقِنَا عَذَابَ النَّارَ « قال : فدَعَا له رسُول الله - ﷺ - فَشُوفِي »
فصل
اختلفوا في الَّذِين يَقتَصِرُون في الدُّعاء على طلب الدُّنْيَا على قَوْلَيْن.
فقال قوم : هم الكُفَّار؛ رُوِي عن ابن عَبَّاس - رضي الله عنهما -؛ أنّ المُشْركين كانوا إذا وقَفُوا للدُّعاء، يقولون : اللَّهُمَّ أعطِنا غنماً وإبلاً وبقراً، وعبيداً، وإماءً، وكان الرَّجُل يقوم ويقُول : اللَّهُم إنّ أبي كان عظيم القُبَّة، كبير الجَفْنَة، كثير المال؛ فأعطني مثلما أعطيْتَه، ولم يَطْلُبُوا التَّوْبة والمغفِرة؛ لأنهم كانوا مُنْكِرين البعثَ والمَعَاد.
وعن أنسٍ؛ كانوا يقولون : اسْقِنا المطر، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر، فأخبر الله - تعالى - أنَّ من كان هكذا، فلا خلاق لهُ في الآخِرَة، أي : لا نَصِيبَ لهُ.
قال القرطبي : فنهُوا عن ذلك الدُّعاء المَخْصُوص بأمرِ الدُّنْيَا، وجاء النَّهْي بصيغة الخَبَر عَنْهُم.
وقال آخرون : قد يكُونُوا مؤمِنِين، ويسألون الله - تعالى - لِدُنياهُم لا لآخِرَتِهِم، ويكون سُؤَالُهم هذا ذَنباً؛ لأنهم سأَلُوا الله في أعظم المواقف حُطام الدُّنْيَا الفَانِي، وأعْرَضُوا عن سُؤَال نعيم الآخِرة، ويقال لِمَن فَعَل ذَلِك : أنّه لا خَلاَقَ لَهُ في الآخِرةِ، وإن كان مُسْلِماً؛ كما رُوِي في قوله - تعالى -