١٠٠٦ - قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
لأجل قوله « المُتَأَنِّي ». و « تَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ » يكونان لازمين ومتعدِّييثن، ومتعلِّق التعجيل محذوف، فيجوز أن تقدِّره مفعولاً صريحاً، أي : من تعجَّل النَّفر، وأن تقدِّره مجروراً أي : بالنَّفر، حسب استعماله لازماً ومتعدِّياً.
وفي هذه الآيات من علم البديع : الطباق، وهو ذكر الشيء وضده في « تَعَجَّل وتَأَخَّرَ »، فهو كقوله :﴿ أَضْحَكَ وأبكى ﴾ [ النجم : ٤٣ ] و ﴿ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ [ النجم : ٤٤ ]، وهذا طباقٌ غريب، من حيث جعل ضدَّ « تَعَجَّلَ » :« تَأَخَّرَ »، وإنما ضدُّ « تَعَجَّلَ » :« تَأَنَّى »، وضدُّ « تَأَخَّرَ » :« تقدَّم »، ولكنه في « تَعَجَّلَ » عبرَّ بالملزوم عن اللازم، وفي « تَأَخَّرَ » باللازم عن الملزوم، وفيها من علم البيان : المقابلة اللفظيَّة، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفرات آتٍ بزيادة في العبادة، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل، فقال في حقه أيضاً :« فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » ؛ ليقابل قوله أولاً :﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، فهو كقوله :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] ﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ].
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً؛ فقال : قوله :« وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » فيه إشكالٌ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلَّ ما يلزمه في تمام الحجِّ، فما معنى قوله :« فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » فهذا اللَّفظ إنما يقال في حقِّ المقصِّر، وأجاب بوجوه :
أحدها : ما تقدَّم من المقابلة، ونقله عن الواحدي.
وثانيها : أنّه - تعالى - لما أذن في التَّعجيل على سبيل الرُّخصة، احتمل أن يخطر بالبال أنَّ من لم يترخَّص فإنه يأثم. كما قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : القصر عزيمة والإتمام غير واجب، ومذهب أحمد - رحمه الله - : القصر والفطر في السَّفر أفضل، فأزال الله - تعالى - هذه الشُّبهة، وبيَّن أنه لا إثم عليه في الأمرين، فإن شاء تعجَّل وإن شاء تأخَّر.
وثالثها : قال بعض المفسِّرين : إن منهم من كان يتعجَّل، ومنهم من كان يتأخَّر، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله، ويقول : هو مخالفٌ لسنَّة الحجِّ، فبيَّن الله - تعالى - أنّه لا عيب على كلِّ واحد من الفريقين.
ورابعها : أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخِّر؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثَّلاث؛ فكأنّه قيل : أيَّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث، فمن نقَّص منها وتعجَّل في يومين، فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخَّر عن الثَّالث إلى الرَّابع؛ فلم ينفر مع النَّاس، فلا شيء عليه.
وخامسها : أنّه ذكر هذا الكلام؛ مبالغة في أن الحجَّ يكفِّر الذُّوب والآثام؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطَّبيب : إن تناولت السُّمَّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضارِّن لا بيان أن تناول السُّمِّ وعدم تناوله يجريان مجرَى واحداً؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجِّ مكفرِّراً لكلِّ الذُّنوب؛ لأن التَّعجيل وتركه سيَّان؛ ومما يدلُّ على أن الحجَّ سبب قويٌّ في تكفير الذُّنوب قوله - عليه السّلام -


الصفحة التالية
Icon