قال القرطبي رحمه الله : وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ :« إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين، يشترُون الدُّنيا بالَّدين، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون، وعلى اللَّهِ يجترئُونَ فبي حلفت لأُسَلِّطَنَّ عليهم فِتنَةً تدَعُ الحليم منهم حيران. ومعنى :» وَيُشْهِدُ الله «، أي : يقول : اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقّاً.

فصل


اختلفُوا في المَوْصُوف بالصِّفاتِ المذكورة في الآية، هل هو مُنَافقٌ أمْ لا؟
قال ابنُ الخطيب : إنَّها لا تدلُّ على ذلك، فإِنَّ قوله :﴿ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا ﴾ لا دلالة فيه على صِفةٍ مَذْمُومةٍ، إِلاَّ من جهة الإِيماء الحاصل بقوله ﴿ فِي الحياة الدنيا ﴾، فإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ : فُلاَن حُلْوُ الكَلاَمِ فيما يَتَعَلَّقَ بالدُّنيا أَوْهَم نوعاً من المَذمَّةِ.
وقوله :﴿ وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ لا دلالة فيه على حالَةٍ مُنْكرةٍ، وإِن أَضمرنا فيه أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبه، مع أنَّ قلبه بخلاف ذلك لأَنَّهُ ليس في الآية أَنَّ القَوْلَ الَّذي أَظْهرهُ هو الإِسلامُ والتَّوحِيدُ حتى يكُون خلافه نِفَاقاً، بل يَحْتَمِلُ أن يُضْمِر الفساد، ويظهر ضِدَّهُ، فَيَكُونُ مُرائِياً
وقوله :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام ﴾ أيضاً لا يُوجِبُ النِّفَاقَ.
وقوله :﴿ وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا ﴾ فالمفسد قد يكون مُسْلِماً.
وقوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾ أيضاً لا يَقْتَضِي النِّفَاق، إِلاَّ أنَّ المُنَافِقَ داخل في هذه الصِّفَاتِ الخَمْس، والمرائي أيضاً.

فصل في ما أثر عن السلف في بيان » ألد الخصام «


قال مُجاهدٌ : أَلَدُّ الخِصَام : معناهُ : ظَالِمٌ لا يستقيمُ وقال السُّدُّ - رحمه الله تعالى - أعوجُ الخِصَامِ.
وقال قتادةُ : شديدُ القَسْوة في المعَصية، جدلٌ بالباطل، عالم اللِّسان، جاهل العمل، يتقلد بالحكمة، ويعملُ بالخطيئة.

فصل في بيان أمر الاحتياط في الدِّين


قال القُرطبيُّ : قال عُلماؤُنَا : في الآية الكريمة دليلٌ على أَنَّ الاحتياط فيما يتعلق بأُمُور الدِّين والدُّنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأَنَّ الحاكم لا يعملُ على ظاهر أَحوالِ النَّاسِ وما يبدو من إيمانهم، وصلاحهم؛ حتى يَبْحث عن باطنهم؛ لأَنَّ الله تعالى بَيَّنَ أَحوال النَّاسِ، وأَنَّ منهم من يظهرُ قولاً جميلاً، وهو يَنْوي قَبِيحاً.
فإِنْ قِيلَ : هذا يَعارضُ قوله عليه السَّلام :»
أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لا إِله إِلاَّ اللَّهُ « وقوله :» فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحو ما أَسْمَعُ «
فالجوابُ : هذا كان في صدر الِسلامِ، حيثُ كان إِسْلاَمُهُم سلامتهم، وأمَّا الآن، وقد عَمَّ الفسادُ، فلا، قاله ابنُ العَرَبيّ.
والصَّحيحُ : أَنَّ الظَّاهِرَ يَعملُ عليه، حَتّى يبين خلافه.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تولى سعى ﴾ »
سَعَى « جوابُ إذا الشَّرطيَّة، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ.


الصفحة التالية
Icon