ورابعها : أَنَّ المرادَ بهذا الخطابِ المسلِمُونَ، والمعنى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ ﴾ دُومُوا على الإسلام فيما بَقِيَ من العُمُرِ ولا تَخْرُجوا عنه ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ﴾ أي : ولا تلتفتوا إلى الشُّبُهاتِ التي يُلْقيها إليكم أصحابُ الضلالةِ والغوايةِ.
قال حُذَيفةُ بنُ اليمانِ في هذه الآيةِ : الإِسْلاَمُ ثمانيةُ أَسْهم : الصلاةُ سهمٌ، والزكاة سَهْمٌ، والصدقةُ سَهْمٌ، والحجُّ سَهْمٌ، والعمرةُ سَهْمٌ، والجهادُ سَهْم، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ، والنَّهْيُ عن المُنْكر سَهْمٌ، وقد خاب مَنْ لا سهم له.
فإنْ قيل : المؤمنُ الموصوفُ بالشيء يقُالُ له : دُمْ عَلَيْه، ولا يقالُ لهُ : ادخُلْ فيه، والمذكُور في الآيةِ هو قوله :« ادخلُوا ».
فالجوابُ : الكائن في الدار إذا علم أَنَّ له في المستقبل خروجاً عنها، فلا يمتنع أن يُؤْمَرَ بدخولها في المستقبل، وإن كان في الحال كائناً فيها؛ لأن حالَ كونهِ فيها غيرُ الحالةِ التي أُمِر أن يدخل فيها، فإذا كان في الوقْتِ الثاني قد يخرج عنها، صَحَّ أن يؤمر بدخُلولِها.
وقال آخرُونَ : المراد ب « السِّلْم » في الآية الصُّلح، وتركُ المحاربةِ والمُنَازَعةِ، والتقديرُ :« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا ادْخُلُوا في السِّلْم كَافَّةً » أي : كُونُوا مُجْتَمِعينَ في نُصْرة الدين واحتمال البَلوَى فيه ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ﴾ بأَنْ يحملَكُم على طلب الدُّنْيَا، والمنازعةِ مع الناس، فهو كقوله :﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [ الأنفال : ٤٦ ]، وقوله :﴿ واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ [ آل عمران ].
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ﴾ أي : لاَ تُطِعُوهُ فيما يدعُوكُمْ إليه، وتقدَّم الكلامُ على خطواته.
وقوله :﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾.
قال أبو مسلمٍ : مُبِين مِنْ صفاتِ البليغ الذي يُعرِبُ عن ضميره.
قال ابنُ الخطِيب : ويدلُّ على صحةِ هذا المعنى قوله ﴿ حموالكتاب المبين ﴾ [ الدخان : ١ - ٢ ] ولا يعنى بقوله « مُبين » إلاَّ ذلك. فإن قيلَ : كيف وصفُ الشيطانِ بأَنَّهُ مُبِينٌ مع أَنَّا لا نَرى ذاتَهُ، ولا نسمعُ كَلامَهُ؟
فالجوابُ أنه تعالى لَمَّا بَيَّنَ عداوتَهُ لآدمَ ونسلِه، فلذلك الأمرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بأَنَّهُ عدوٌّ مبين، وإِنْ لم يشاهد؛ مثالُه : مَنْ يُظْهر عداوتهُ لرجلٍ في بلد بعيدٍ فقد يصح أن يُقال : إِنَّ فلاناً عدوٌّ مبينٌ لك وإن لم يشاهده في الحال.
قال ابنُ الخطيبِ : وعندي فيه وجهٌ آخرُ، وهو : أن الأصلَ في الإِبانَةِ القطع، والبيانُ إِنَّما سُمِّيَ بياناً لهذا المعنى فَإِنَّه يقطع بعضَ الاحتمالاتِ عن بعض، فوصْفُ الشيطانِ بأنه مبينٌ بيانُه : أنه يقطع الملكف بوسْوسَتِه عن طاعة الله وثوابِه.
فإن قيلَ : كون الشيطان عَدُوّاً لنا، إِمَّا أَنْ يكونَ بسببِ أنه يقصد إيصالَ الآلمِ والمكارِه إلَيْنَا في الحالِ، أو بسببِ أَنَّه بوسوستِه يمنعنا عن الدين والثواب، والأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لو كان كذلك لوقعنا في الأَمْراض والآلمِ وليس كذلك.
والثَّانِي - أيضاً - باطِلٌ؛ لأَنَّ مَنء قَبلِ منه تلك الوسْوَسَةَ فإنه أتي من قبل نفسه؛ لقولهِ :


الصفحة التالية
Icon