الوجه الثاني : أن تكون « كَمْ » في محلِّ رفع بالابتداء، والجملة بعدها في محلِّ رفع خبراً لها، والعائد محذوفٌ تقديره : كم آتيناهموها، أو آتيناهم إيَّاها، أجازه ابن عطيَّة وأبو البقاء، واستضعفه أبو حيَّان من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب لا يجوز إلاَّ في ضرورةٍ، كقوله :[ السريع ]

١٠٣١ - وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا بِالْحَقُ لاَ يُحْمَدُ بالْبَاطِلِ
أي : وخالدٌ يحمده. وهذا نقل بعضهم، ونقل ابن مالكٍ، أنَّ المبتدأ إذا كان لفظ « كُلٍّ »، أو ما أشبهها في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقاً من البصريِّين والكوفيِّين، ومنه :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ﴾ [ النساء : ٩٥ ] في قراءة نافعٍ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك، فالكوفيُّون يمنعون ذلك لا في السِّعة، والبصريُّون يجيزونه بضعفٍ، ومنه :﴿ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ ﴾ [ المائدة : ٥٠ ] برفع « حُكْم ». فقد حصل أنَّ الذي أجازه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين، ضعيف عند البصريين.
وهل « كَمْ » هذه استفهامية، أو خبرية؟ الظاهر الأول، وأجاز الزمخشريُّ فيها الوجهين، ومنعه أبو حيَّان من حيث إن « كَمْ » الخبرية مستقلة بنفسها، غير متعلقةٍ بالسؤال، فتكون مفلتةً ممّا قبلها، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها، وأيضاً فيحتاج إلى حذف المفعول الثاني للسؤال، تقديره : سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم قال : كثيراً من الآيات التي آتيناهم، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك.
و « مِنْ آيةٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها مفعول ثان على القول بأنَّ « كَمْ » منصوبةٌ على الاشتغال؛ كما تقدَّم، ويكون ممِّيز « كَمْ » محذوفاً، و « مِن » زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غير موجب، إذ هو استفهامٌ، وهذا إذا قلنا إنَّ « كَمْ » استفهامية لا خبريةٌ؛ إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ، و « مِنْ » لا تزاد في الواجب إلاَّ على رأي الأخفش، والكوفيِّين، بخلاف ما إذا كانت استفهامية. قال أبو حيَّان : فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعدٌ، لأنَّ متعلَّق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت :« كَمْ مِنْ دِرْهمٍ أعطيته مِنْ رَجلٍ » على زيادة « مِنْ » في « رَجُلٍ » لكان فيه نظرٌ « انتهى.
والثاني : أنها تمييز، ويجوز دخول »
مِنْ « على مميِّز » كَمْ « استفهامية كانت أو خبرية مطلقاً، أي : سواء وليها ممِّزها، أم فصل بينهما بجملةٍ، أو ظرفٍ أو جارٍّ ومجرورٍ، على ما قرَّره النحاة، و » كَمْ « وما في حيِّزها في محلِّ نصب أو خفض، لأنها في محل المفعول الثاني للسؤال فإنَّه يتعدَّى لاثنين : إلى الأوَّل بنفسه وإلى الثَّاني بحرف جرٍّ : إمَا عن، وإمَّا الباء؛ نحو : سألته عن كذا وبكذا؛ قال تعالى :


الصفحة التالية
Icon