وقال أبو مسلمٍ : يحتمل أنهم زيَّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك؟ لا يريدون أنَّ ذابهاً ذهب به، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة :﴿ أنى يُؤْفَكُونَ ﴾ [ المائدة : ٧٥ ]، ﴿ أنى يُصْرَفُونَ ﴾ [ غافر : ٦٩ ] إلى غير ذلك، وأكّده بقوله :﴿ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ ﴾ [ المنافقون : ٩ ] وأضاف ذلك إليهما؛ لمَّا كان كالسبب ولمَّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيَّن لنفسه.
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله :« زُيِّنَ للنَّاس » يقتضي أنَّ مزيِّناً زينه، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.
التأويل الثالث : أنَّ المزيِّن هو الله تعالى، ويدلُّ عليه وجهان :
أحدهما : قراءة من قرأ « زَيَّنَ » مبنيّاً للفاعل.
والثاني : قوله تعالى :﴿ جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٧ ] والقائلون بهذا ذكروا وجوهاً :
الأول : أنَّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزَّهرة والنضارة، والطِّيب، واللَّذَّة؛ ابتلاءً لعباده؛ كقوله :﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات ﴾ [ آل عمران : ١٤ ] إلى قوله :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ﴾ [ آل عمران : ١٥ ].
وقال :﴿ المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا ﴾ [ الكهف : ٤٦ ] ثم قال :﴿ والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٤٦ ] فهذه الآيات متوافقة، والمعنى : أنَّ الله تعالى جعل الدُّنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ، وركَّب في الطِّباع الميل إلى اللذات، وحبّ الشهوات، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردِّها عنه؛ ليتمَّ بذلك الامتحان، وليجاهد المؤمن هواه، فيقبض نفسه عن المباح، ويكفّها عن الحرام.
الثاني : أنَّ المراد ب « التَّزَيِينِ » أنه أمهلهم في الدنيا، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها، والحرص في طلبها، فهذا الإمهال هو المسمى ب « التزيين ».
الثالث : أنَّه زيَّن لهم المباحات دون المحظورات، وعلى هذا سقط الإشكال، إلاّ أنَّ هذا ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى خصَّ الكفَّار، وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات، وكثرة ماله، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدَّرٌ منغَّصٌ وأكبر غرضه أجر الآخرة، إنما يعدُّ الدنيا كالوسيلة إليها، ولا كذلك الكافر، فإنَّه وإن قلَّت ذات يده، فسروه، بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها.
وأيضاً، فإنَّه تعالى أتبع الآية بقوله :﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ ﴾ وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللَّذات المحظورة، وتحملهم المشاقَّ الواجبة، فدلَّ ذلك على أنَّ التزيين لم يكن في المباحات.
قال ابن الخطيب : ويتوجَّه على المعتزلة سؤال، وهو أنَّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفَّار لا بدَّ له من محدث، وإلا فقد وقع المحدث، لا عن مؤثر فهذا محال، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمَّا أن يكون قد رجَّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة، فقد زال الاختيار، لأنَّ حال الاستواء لمَّا امتنع حصول الرُّجحان، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً أولى بامتناع الوقوع، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنَّه لا خروج عن النقيضين، فهذا توجيه السؤال، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنَّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء، بل خلق تلك الأفعال، والأقوال.