اعلم أن القوم لما أَصرُّوا على العِنَّاد واللّجَاج الباطل، واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بيّن الله تعالى لرسوله صلى الله أنه لا مزيد على مافعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة.
قوله :« بالحَقِّ » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مفعولاً به، أي : بسبب إقامة الحق.
الثاني : أن يكون حالاً من المفعول في « أَرْسَلْنَاكَ » أي : أرسلناك ملتبساً بالحق.
الثالث : أن يكون حالاً من الفاعل، أي : ملتبسين في الحق.
وفيه وجوه :
أحدها : أنه الصدق كقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ [ يونس : ٥٣ ] أي : صدق وقال ابن عباس رضي الله عنهما :« بالقرآن »، لقوله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ [ ق : ٥ ].
وقال ابن كيسان :« بالإسلام وشرائعه »، لقوله تعالى :﴿ وَقُلْ جَآءَ الحق ﴾ [ الإسراء : ٨١ ]، وقال مقاتل :« لم نُرسِلْك عبثاً وإنما أرسناك بالحق » لقوله تعالى :﴿ مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق ﴾ [ الأحقاف : ٣ ] وعلى هذه الأقوال في تعلّق هذا الجار وجوه :
أحدها : أنه متعلق بالإرسال.
وثانيها : أنه متعلّق بالبشير والنذير أي : أنت مبشر بالحق ومنذر به.
وثالثها : أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن، أي أرسلناك بالقرآن حال كونك بشيراً لمن أطاع الله بالثواب، ونذيراً لمن كفر بالعقاب، والأولى أن يكون البشير والنذير حالاً من الرسول، أي : أرسلناك بالحق لتكون بشيراً ونذيراً لمن اتبعك [ ونذيراً لمن كفر بك ] ويجوز أن يكون بشيراً ونذيراً حالاً من « الحق » ؛ لأنه يوصف أيضاً بالبشارة والنَّذَارة، وبشير ونذير على صيغة « فعيل ».
أما بشير فتقول : هو من بَشَرَ مخففاً؛ لأنه مسموع فيهن و « فعيل » مطرد من الثلاثي.
وأما :« نذير » فمن الرباعي، ولا ينقاس عَدْل مُفْعِل إلى فَعِيل، إلا أن له هنا مُحَسِّناً.
قوله تعالى :« وَلاَ تُسْأَلُ » قرأ الجمهور :« تُسْأَلُ » مبنيًّا للمعفول مع رفع الفعل معلى النفي، وفي معنى هذه القراءة وجوه :
أحدها : أن مصيرهم إلى الجحيم، فمعصيتهم لا تضّرك، ولست مسؤولاً عن ذلك، وهنو كقوله :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ] وقوله :﴿ عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ ﴾ [ النور : ٥٤ ].
الثاني : أنك هَادٍ وليسي لك من الأمر شيء، ولا تَغْتَمّ لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب، ونظيره قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ].
الثالث : أنك لا تسأل عن ذَنْب غيرك ويعضد هذه القراءة قراءة أُبَيّ :« وما تسأل »، وقراءة عبدالله « ولن تسأل ».
وقال مقاتل رحمه الله تعالى : إن النبي ﷺ قال :« لَوْ أنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ بَأْسَهُ بِاليَهُودِ لآمَنُوا » ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم ﴾ وقُرىء « تَسْألُ » مبيناً للفاعل مرفوعاً أيضاً، وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنه حال، فيكون معطوفاً على الحال قبلها، كأنه قيل : بشيراً أو نذيراً، وغيكر مسؤول.