فإن قيل : ما الفائدة في قول إبراهيم ﷺ :﴿ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ]، وقد أخبر الله تعالى قبل ذلك بقوله تعالى :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] ؟
فالجواب : من وجوه :
أحدها : أن الله تعالى لما أخبره بأنه جعل البيت مثابة للناس وأمناً، ووقع في خاطره أنه إنما جعل البيت وحده آمناً، فطلب إبرراهيم ﷺ أن يكون الأمن بجميع البلد.
وثانيها : أن يكون قوله تعالى :« وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ » بعد قوله أبراهيم ﷺ ﴿ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً ﴾ فيكون إجابة لدعئه، وعلى هذا فيكون مقدماً في التلاوة مؤخراً في الحكم.
وثالثها : أن يكون المراد من الأَمْنِ المذكور في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] هو الأمن من الأعداء والخيف والخَسْف والمَسْخ، والمراد من الأمن في دعاء إبراهيم هو الأمن من القَحْط، ولهذا قال :﴿ وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات ﴾.
فإن قيل : الأمن والخصب مما يتعلّق بمنافع الدنيا، فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟
فجوابه من وجوه :
أحدها : أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين، وإذا كان البلد آمناً مخصباً تفرغ أهلها لطاعة الله تعالى وإذا كان ضد ذلك كانوا على ضد ذلك.
وثانيها : أنه تعالى جعله مثابة للناس، والناس إنما يمكنهم الذَّهاب إليه إذا كانت الطرق آمنةً، والأقوات هناك رخصية.
وثالثها : أن الأمنو الخَصْب مما يدعوا الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهل المشاعر العظيمة، والموقف الكريمة، فيكون الأمن تتمّةً في تلك الطاعة.

فصل في المراد بالأمن


اختلفوا في الأمن المسؤول هنا فقيل : الأمن من القَحْط؛ لأنه أسكن ذرّيته بوادٍ غير ذي زرع ولا ضَرْع.
وقيل : الأمن من الخَسْف والمَسْخ.
وقيل : الأمن من القتل هو قول أبي بكر الرازي، واحتج عليه بأنه ﷺ سأله الأمن أولاً، ثم سأله الرِّزْق ثانياً.
ولو كان المَطْلوب هو الأمن من القَحْط لكان سؤال الرِّزْق بعده تكرار، وقد يجاب بأنه : لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخَسْف والمَسْخ، أو لعله الأمن من القَحْط، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية، وقد يكون بالتَّوْسعة فيها، فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القَحْطِ، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة.
قال القرطبي رحمه الله تعالى : دعا إبراهيم لذريته وغيرهم بالأمن، وَغَدٍ العيش.
فروي أنه لما دعا بهذا أمر الله تعالى جبريل، فاقتلع « الطائف » من « الشام » فطاف بها حول البيت أسبوعاً، فسميت « الطائف » لذلك، ثم أنزلها « تهامة »، وكانت « مكة » وما يليها حين ذلك قَفْراً لا ماء فيها ولا نَبَاتَ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثَّمَرات.


الصفحة التالية
Icon