وأجيب : بأنَّ هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مستَقِلٌّ بِنَفْسِه، من غير أن يُرَدَّ إلى ما تقدَّم، فوجب حمله على كلِّ ما يخلق في الرَّحم.
وقوله :﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر ﴾ ليس المراد : أن ذلك النَّهي مشروطاً بكونها مؤمنة، بل هذا كقول المظلوم للظَّالم :« إن كُنْتَ مُؤْمِناً فَيَنْبَغِي أن يَمْنَعَكَ إيمَانُك عن ظُلْمِي »، وهذا تهديدٌ شديد في حقِّ النّساء؛ فهو كقوله في الشَّهادة :﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ]، وقوله :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ].
قوله تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ ﴾ الجمهور على رفع تاء « بُعُولَتُهُنَّ » وسكَّنها مسلمة بن محاربٍ، وذلك لتوالي الحركات، فخُفِّف، ونظيره قراءة :﴿ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٠ ] بسكون اللام حكاها أبو زيد، وحكى أبو عمرو : أنَّ لغة تميم تسكين المرفوع من « يُعَلِّمُهُمُ » ونحوه، وقيل : أجرى ذلك مجرى « عَضُدٍ، وعَجُزٍ » ؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وقد تقدَّم ذلك.
و ﴿ أَحَقُّ ﴾ خبرٌ عن « بُعُولَتُهُنَّ » وهو بمعنى حقيقون؛ إذ لا معنى للتفضيل هنا؛ فإنَّ غير الأزواج لا حقَّ لهم فيهنَّ البتَّة، ولا حقَّ أيضاً للنِّساء في ذلك، حتى لو أبت هي الرَّجعة، لم يعتدَّ بذلك.
وقال بعضهم : هي على بابها؛ لأنه تعالى قال :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ ﴾ فكان تقدير الآية : فإنَّهن إن كتمن لأجل أن يتزوَّج بهنَّ زوجٌ آخر، فإنَّ الزَّوج الأوَّل أحقُّ بردِّها؛ لأنه ثبت للزَّوج الثَّاني حقٌّ في الظَّاهر؛ لادِّعائها انقضاء عدَّتها.
وأيضاً : فإنَّها إذا كانت معتدَّة، فلها في انقضاء العدَّة حقُّ انقطاع النِّكاح، فلما كان لهنَّ هذا الحقُّ الذي يتضمَّن إبطال حقِّ الزَّوج، جاز أن يقول :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ ﴾ حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرَّجعة ما هنَّ عليه من العدَّة.
و « البُعُولة » فيها قولان :
أحدهما : إنه جمع « بَعْل » كالفحولة والذُّكورة والجدودة والعمومة، والهاء زائدة مؤكِّدة لتأنيث الجماعة ولا ينقاس، بل إنَّما يجوز إدخالها في جمع رواة أهل اللُّغة عن العرب، فلا يقال في كعب : كُعُوبة، ولا في كَلْب : كلابة.
والبعل زوجُ المَرْأةِ؛ قالوا : وسُمِّي بذلك على المستعلي، فلما علا من الأرض فَشَرِبَ بعروقه. ويقال : بَعَلَ الرَّجُلُ يبعلُ؛ كمنع يمنعُ. ويشترك فيه الزَّوجان؛ فيقال للمرأة : بعلة؛ كما يقال لها : زَوْجَةٌ في كَثِير من اللُّغَاتِ، وزَوْجٌ في أَفْصَح الكَلاَم، فهما بَعْلاَن كما أنَّهما زوجان، وأصل البعل : السَّيِّد المالِك فيما نقل، يقال : من بعلُ هذه النَّاقة؟ كما يقال من ربِّها؟ وبعل : اسم صنم، كانوا يتَّخونه ربّاً؛ قال - تعالى - :﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين ﴾ [ الصافات : ١٢٥ ]، وقد كان النِّساء يدعون أزواجهن بالسودد.


الصفحة التالية
Icon