والثاني : قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - : إن الجمع - وإن كان مُحرَّماً - إلا أَنَّه يقعُ، وهذا منه بناءً على أَنَّ النَّهيَ لا يَدُلُّ على الفَسَادِ.
حجَّة القول الثَّاني : هو أنَّ الآية مُتعلِّقَة بما قبلها؛ لأنه - تعالى - بيَّن في الآية الأُولى أن حقَّ المُراجعة ثابتٌ للزَّوج، ولم يُبيِّن أنَّ ذلك الحَقَّ ثابِتٌ دائماً، أو إلى غاية مُعيَّنة، فكان كالمجمل المُفتقر إلى المُبيِّن، أو العامِّ المفتقرِ إلى المُخصص، فبيَّن في هذه الآيةِ أن ذلك الطَّلاق الَّذِي ثبت فيه للزَّوج حَقّ الرَّجْعَة، هو أن يُوجد طلقتانِ، فأمّا بعد الطَّلْقَتين، فلا يثبِتُ أَلْبَتَّةَ حق الرَّجعة فالألف واللام في « الطَّلاقِ » المعهُود السَّابق، فهذا تفسيرٌ مطابِقٌ لنظم الآية، فيكُون أولى لوجوهٍ :
الأول : أن قوله :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] إن كان عَامّاً في كُلِّ الأَحوال؛ فهو مُفْتَقِرٌ إلى المُخَصّص، وإن لم يكُن عامّاً فهو مُجملٌ؛ لأنه ليس فيه بيان الشَّرط الَّذِي عنده يثبت حقُّ الرَّجعة، فافتقر إلى البيان، فإذا جعلنا الآية مُتَعَلِّقة بما قبلها، كان المُخَصص حاصلاً مع العامِّ المخصوص، أو كان البيانُ حاصِلاً مع المُجْمَلِ، وذلك أَولى من ألاَّ يكون كذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخِطابِ - وإذا كان جَائِزاً -، إلا أن الأَرجح ألاَّ يَتَأَخَّر.
الثاني : أنَّا إذا جعلنا هذا الكلام مُبتدأ، كان قوله :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ ﴾ يقتضي ذكر الطَّلقة الثَّانية، وهي قوله :﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ فصار تقدير الآية : الطَّلاق مَرَّتان ومَرَّة؛ لأنا نقول : إن قوله :﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ متعلِّق بقوله :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾ لا بقوله :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ ﴾، ولأن لفظ التَّسريح بالإِحسانِ لا إِشعار فيه بالطَّلاق، ولأنَّا لو جعلنا التَّسريح هو الطَّلقة الثَّالثة، لكان قوله :« فَإِنْ طَلَّقَهَا » طلقة رابعة، وهو غير جائِزٍ.
الثالث : ما روينا في سبب النُّزول : من شكوى المرأة إلى عائشة كثرة تطليقها ومراجعتها قصداً للمضارَّة، وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ سبب النُّزول لا يجوز أن يكون خارجاً عن عُمُوم الآيةِ، فكان تنزيل الآيةِ على هذا المعنى، أولى من تنزيلها على حُكْمٍ أَجنبيٍّ عنها.

فصل


اعلم أن معنى الآية : أن الطَّلاق التي يَثْبُت فيه الرَّجعة هو أَنْ يوجد مرَّتان، ثم الواجب بعد ذلك : إمَّا إمساكٌ بمعروفٍ، وهو أن يُراجعها لا على قصد المضارَّة، بل على قصدِ الإصلاح، وإما تسريحٌ بإِحسانٍ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يُوقِعَ عليها الطَّلقة الثَّالثة، روي أَنَّه لمَّا نَزلَ قوله تعالى :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ ﴾، قيل له - ﷺ - : فأَين الثَّالثة؟ قال عليه الصَّلاة والسَّلام - :« هُو قَوْلُه تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ ».
الثاني : أن التَّسريح بالإحسان : أن يَتْرُكَ مُراجَعَتها حتى تَبين بانقضاءِ العِدَّة، وهو مَروِيٌّ عن الضَّحَّاك والسُّدِّيّ.
قال ابن الخطيب : وهو أَقْرَبُ لوجوه :
أحدها : أن « الفَاء » في قوله :« فَإِنْ طَلَّقَها » تَقْتَضِي وقوع هذه الطَّلقة مُتَأَخِّرة عن ذلك التَّسريح، فلو كان المُرادُ بالتَّسريح هو الطَّلقَة الثَّالثة، لكان قوله : فإن طَلَّقها طَلْقَةً رَابِعَة؛ وهو لا يجُوزُ.


الصفحة التالية
Icon