وثانيها : أنَّا إذا حَمَلْنَا التَّسريح على تَرْكِ المُراجعة، كانت الآيةُ مُتَنَاولة لجميع الأَحوالِ؛ لأَنَّه بعد الطَّلْقَة الثَّانية إمَّا أن يُراجعها وهو المراد بقوله :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أو لا يُراجعها، بل يتركها حتى تنقضي عِدَّتُها وتبين، وهو المرادُ بقوله :﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ أو يُطَلِّقها وهو المراد بقوله « فَإِنْ طَلَّقَها »، فكانت الآيَةُ مُشْتَمِلَةً على بَيَانِ كُلِّ الأقسام، وإذا جعلنا التَّسريح بالإِحسان طَلاَقاً آخر لزم تركُ أحد الأقسامِ الثَّلاثة، ولزِم التكرير في ذكر الطَّلاقِ، وهو غيرُ جَائِزٍ.
وثالثها : أنَّ ظاهر التَّسرِيح هو الإرسالُ والإِهمالُ، فحمله على تركِ المُراجعة أَوْلَى من حملِهِ على التَّطليق.
ورابعها : أنَّه قال بعد ذلك التَّسريح :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾ والمُراد به الخُلع، ومعلومٌ أنه لا يصحُّ الخلعُ بعد التَّطليقة الثَّالثة، فهذه الوجوه ظاهرة، لو لم يثبت الخبر الَّذِي رويناه، فإن صحَّ ذلك الخبر، فلا مزيد عليه.
فصل في الحكمة في الرَّجعة
والحِكْمة في إثبات حقِّ الرَّجعة : أن الإِنسان إذا كان مع صاحبه، لا يدري هل تَشُقُّ عليه مُفارقتُه أَمْ لا؟ فإذا فارقهُ بعد ذلك يظهر، فلو جَعَلَ الله الطَّلقة الواحدة مانِعةٌ من الرُّجوع، لعظمت المَشَقَّة على الإِنسان بتقدير أَنْ تظهر المَحَبَّة بعد المُفارقة مَرَّتين، وعند ذلك تحصل التَّجربة، فإن كان الأَصلحُ الإِمْسَاكَ، راجعها وأَمسكها بالمعروفِ، وإن كان الأَصلح التَّسريح، سرَّحها بإِحسان.
فصل
واختلف العُلَمَاءُ إذا كان أَحد الزَّوْجَينِ رقيقاً :
فذهب أكثرهم إلى أَنَّه يُعتبر عدد الطَّلاق بالزَّوج؛ فالحُرُّ يملك على زوجته الأَمة ثلاث تطليقاتٍ، والعبد لا يملك على زوجته الحُرَّة ِلاَّ طَلْقَتَيْن.
قال عبدالله بن مسعود : الطَّلاق بالرِّجال والعِدَّة بالنِّساءِ، يعني : يُعْتَبر في الطَّلاق حالُ الرَّجالِ، وفي قدر العِدَّة حالُ المرأة، وهو قول عُثمان، وزيد بن ثابت، وابن عبَّاس، وبه قال عطاء وسعيد بن المُسَيَّب، وإليه ذهب مالِكٌ، والشَّافِعِي، وأَحمد، وإسحاق.
وذهب قَوْمٌ إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطَّلاق، فيملُكِ العَبْدُ على زوجته الحُرَّة ثلاث طلقاتٍ، ولا يَمْلِكُ الحُرَّ على زوجته الأَمة إلاَّ طلْقَتَين، وهو قول سُفْيان الثَّوريّ وأصحاب الرَّأي.
فصل
إذا طلَّقها ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ، لزِمه الطَّلاَق بالإِجماع.
وقال عليّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعود : يلزمه طلقةٌ واحِدةٌ.
وقال ابن عبَّاس : وقوله : ثلاثاً لا معنى له؛ لأَنَّه لم يُطلِّق ثلاث مرَّات وإنَّما يجوز قوله : في ثَلاَث إذا كان مُخبراً عمّا مضى، فيقول : طلَّقت ثلاثاً، فيكون مُخبراً عن ثلاثة أفعالٍ كانت منهُ في ثلاثة أوقاتٍ؛ فهو كقول الرَّجُل : قرأت سُورَة كذا ثلاث؛ فإن كان قرأها ثلاث مرَّاتٍ، كان صادِقاً، وإن كان قرأها مرَّة واحِدَةً، كان كاذِباً، وكذا لو قال : أحْلِفُ بالله ثَلاَثاً يردد الحَلْف كانت ثَلاَثة أيمانٍ، ولو قال : أَحْلِف بالله ثلاَثاً، لم يَكُن حلف إلا يميناً واحدة والطَّلاق مِثْله.