١١١١- أَتَانِي كَلاَمٌ مِنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ وَمَا خِفْتُ يَا سَلاَّمُ أَنَّكَ عَائِبِي
وعلى هذين الوجهين، فتكونُ « أَنْ » وما في حَيِّزها سَادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن عند سيبويه ومَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش؛ كما تقدَّم مراراً والأولُ هو الصحيحُ وذلك أَنَّ « خَافَ » مِنْ أفعالِ التوقُّع، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَين، ولذلك قال الراغب :« الخَوْفُ يُقال لِمَا فيه رجاءٌ مَّا؛ ولذلك لا يُقال : خِفْتُ أَلاَّ أَقْدِرَ على طلوعِ السماءِ، أو نَسْفِ الجبالِ ».
وأصلُ « يُقيمَا » : يُقْوِمَا، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكن قبلَها، ثم قُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لسكونها؛ بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قوله :﴿ الصراط المستقيم ﴾ [ الفاتحة : ٥ ].
وزعم بعضهم أنَّ قوله :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ ﴾ معترضٌ بين قوله :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ ﴾، وبين قوله :﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٠ ]، وفيه بَعْدٌ.
قوله :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ « لاَ » واسمُها وخبرُها، وقوله :﴿ فِيمَا افتدت بِهِ ﴾ متعلِّقٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنَهُ الخبرُ، وهو « عَلَيْهِمَا »، ولا جائزٌ أن يكونَ « عَلَيْهِمَا » متعلِّقاً ب « جُنَاحَ » و « فِيمَا افتدت » الخبرَ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً، والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ.
والضميرُ في « عَلَيْهِمَا » عائدٌ على الزوجَيْن، أي : لا جُنَاحَ على الزوجِ فِيمَا أَخَذَ، ولا على المَرْأَةِ فيما أَعْطَتْ، وقال الفراء : إنَّما يَعُودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنى، والمرادُ واحِدٌ؛ كقوله تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ] ﴿ نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ [ الكهف : ٦١ ] ؛ وقوله :[ الطويل ]
١١١٢- فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وإنما يخرجُ من المِلْحِ، والنَّاسي « يُوشَعُ » وحدَهُ، والمنادَى واحدٌ في قوله :« يَا بْنَ عَفَّانَ ». و « مَا » بمعنى « الذي »، أو نكرةٌ موصوفة، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً؛ لعَوْدِ الضميرِ مِنْ « بِهِ » عليها، إلا على رَأْي مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً؛ كالأخفش وابنِ السَّرَّاج ومَنْ تابَعَهُما.

فصل


اعلم أنه - تعالى - لمَّا أَمر بأن يكون التَّسريح بإحسانٍ بين هنا أنَّ من جُملة الإحسان أَنَّه إذا طلَّقها لا يأخُذُ منها شيئاً، ويدخُل في هذا النَّهي ألا يُضَيِّقَ عليها ليلجئها إلى الافتداءِ؛ كما قال في سورة النساء :﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ [ النساء : ١٩ ] وقوله هنا :﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله ﴾ هو كقوله :﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ [ النساء : ١٩ ] وقال أيضاً :﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ [ النساء : ٢٠-٢١ ].
فإن قيل : قوله :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ ﴾ هذا الخِطاب كان للأَزواج، فكيف يطابقه قوله :﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله ﴾ وإن كان للأَئِمَّة والحُكَّام فهؤلاء لاَ يأخذون منهنّ شيئاً؟
قلنا : الأمران جائزان :
فيجُوز أن يكون أوَّلُ الآيةِ خِطَاباً للأَزْوَاجِ، وآخِرُها خِطاباً للأَئِمَّة والحُكَّامِ، وليس ذلك بغريبٍ من القُرْآن.


الصفحة التالية
Icon