فإن قيل : إذا كان النَّظم الصَّحيح هو هذا، فما السبب في إيقاع الخلع فيما بين هاتين الآيتين؟
فالجواب : أنَّ الرجعة والخلع لا يصحَّان؛ إلاَّ قبل الطَّلقة الثالثة، وأمَّا بعدها، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك، فلهذا السَّبب ذكر الله حكم الرجعة، ثم أتبعه بذكر الخلع، ثم ذكر بعد الكلِّ حكم الطَّلقة الثالثة؛ لأنها كالخاتمة.
فصل في شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها
مذهب الجمهور : أنَّ المطلقة ثلاثاً لا تحلُّ لزوجها؛ إلاَّ بشرُوطٍ وهي :
أن تعتدَّ منه، وتتزوَّج بغيره، ويطأها ثم يطلِّقها، وتعتدَّ من الآخر.
وقال سعيد بن جبيرٍ، وسعيد بن المسيِّب : تحلُّ بمجرد العقد.
واختلف العلماء في ثبوت اشتراط الوطء؛ هل ثبت بالكتاب، أو بالسنة؟ قال أبو مسلمٍ الأصفهانيُّ : الأمران معلومان بالكتاب.
قال ابن جنّي : سألت أبا عليٍّ عن قولهم : نكح المرأة، فقال : فرَّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا : نكح امرأته، أو زوجته، أراد المجامعة، وعلى هذا فالزَّوجية مقدَّمةٌ على النكاح، الذي هو الوطء، وإذا كان كذلك فقوله :﴿ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾، أي : تتزوَّج بزوجٍ، وينكحها، أي : يجامعها.
وروي في سبب النزول أنَّ الآية نزلت في تميمة، وقيل : عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت تحت ابن عمِّها، رفاعة بن وهب بن عتيك القرظيّ، فطلقها ثلاثاً، قالت عائشة : جاءت امرأة رفاعة إلى النبي ﷺ فقالت : إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنَّما معه مثل هدبة الثوب، وإنه طلَّقني قبل أن يمسَّني؛ أفأرجع إلى ابن عمِّي؟ فتبسم رسول الله ﷺ وقال :« أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لاَ؛ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ » والمراد ب « العُسَيْلَة » : الجماع، فروي أنها لبثت ما شاء الله، ثم رجعت إلى النبي - ﷺ - فقالت : إن زَوْجِي قد مَسَّنِي، فقال رسولُ الله - ﷺ - :« كَذَبْتِ فِي قَوْلِكِ الأَوَّلِ، فَلَنْ أُصَدِّقَكِ في الآخرِ »، فلبثت حتى قبض رسول الله ﷺ فأتت أبا بكرٍ، فقالت : يا خليفة رسول الله ﷺ أرجع إلى زوجيَ الأول؛ فإن زوجي الآخر قد مسني؟ فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول الله ﷺ حين أتيته، وقال لك ما قال؛ فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكرٍ، أتت عمر، وقالت له مثل ذلك، فقال :« لئن رجعت إليه لأَرْجُمنَّكِ ».
ولأن المقصود من توقيف الحل على اشتراط الوطء هو زجر الزوج، وإنَّما يحصل بتوقيف الحل على اشتراط الوطء، فأما مجرد العقد، فليس فيه نفرةٌ، فلا يصلح جعله زاجراً.