وأمَّا على قول أصحاب الشافعي، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة، فلهم أن يقولوا : إنَّ من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمَّ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامِّ تلك الصورة الخاصَّة مرَّةً أخرى؛ ليدلَّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام، ما ليس في غيرها، وها هنا كذلك؛ لأن قوله :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] فيه بيان أنه لا بدَّ في مدّضة العدَّة من أحد هذين الأمرين، ومن المعلوم أنَّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء، أن يطلقها، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهرٍ، فلمَّا كان هذا أعظم أنواع المضارة، حسن إعادة حكم هذه الصورة، تنبيهاً على أنّض هذه الصورة أعظم اشتمالاً على المضارة، وأولى بأن يحترز المكلف عنها.
فصل في معنى الإمساك بالمعروف
قال القرطبيُّ : الإمساك بالمعروف، هو القيام بما يجب لها من حقٍّ على زوجها؛ وكذلك قال جماعةٌ من العلماء : إنَّ من الإمساك بالمعروف أنَّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة، أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حدِّ المعروف، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاَّحق بها؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، ضرراً، والجوع لا يصبر أحدٌ عليه، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، وأبو ثور، وعبدالرحمن بن مهدي، وهو قول عمر، وعلي، وأبي هريرة.
وقال سعيد بن المسيَّب : إنَّ ذلك سنةٌ، ورواه أبو هريرة، عن النبي ﷺ.
وقالت طائفةٌ : لا يفرٌَّ بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلّق النفقة بذمَّته، بحكم الحاكم؛ لقوله تعالى :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ﴾ [ البقرة : ٢٨٠ ].
وحجّة الأوَّلين الآية، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - :« تقول المرأة إمَّا أَنْ تُطْعِمني وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي » رواه البخاري في « صحيحه ».
فصل
قوله :﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ إشارةٌ إلى المراجعة، واختلف العلماء في كيفيتها؛ فقال الشَّافعيُّ : لما لم يكن النكاح والطلاق إلاَّ بكلامٍ، لم تكن الرجعة - أيضاً - إلاَّ بكلامٍ.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد : تصحُّ بالوطء.
حجة الشافعي : أنَّ ابن عمر طلَّق زوجته، وهي حائض؛ فسأل عمر رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال :« مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا » فأمره - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالمراجعة في تلك الحال. والوطء في زمن الحيض لا يجوز. وقد يجاب عن هذا؛ بأنَّنا لم نخصَّ الرجعة في الوطء، بل قد يكون في صورةٍ بالوطءِ، وفي صورة بالقول.
وحجَّة أبي حنيفة، قوله تعالى :﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أمرٌ بمجرد الإمساك، والوطء إمساكٌ، فوجب أن يكون كافياً.