فإن قيل : إنه تعالى أثبت حقَّ المراجعة عند بلوغ الأجل، وبلوغ الأجل وهو عبارةٌ عن انقضاء العدَّة، لا يثبت حقَّ المراجعة.
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّ المراد مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ؛ كقول الرجل إذا قارب البلد :« قد بلغنا »، وقول الرجل لصاحبه :« إذا بلغتَ مكَّةَ، فاغْتَسلْ بِذِي طُوى » يريد مشارفة البلوغ، لا نفس البلوغ، وهو من باب مجاز إطلاق اسم الكلِّ على الأَكْثر.
الثاني : الأَجَل اسمٌ للزمان، فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمانٍ يمكن إيقاع الرجعة فيه، بحيث إذا مات، لا يبقى بعده إمكان الرجعة على هذا، فلا حاجة إلى المجاز
فإن قيل : لا فرق بين قوله :« أَمسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ »، وبين قوله :﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً ﴾ ؛ لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه، فما فائدة التكرار؟
فالجواب : الأمر لا يفيد إلاَّ مرةً واحدةً؛ فلا يتناول كلَّ الأوقات؛ أمَّا النهيُ فإنه يتناول كلَّ الأوقات، فلعلَّه يمسكها بالمعروف في الحال، ولكن في قلبه أن يضارَّها في الزمان المستقبل، فلما قال :﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً ﴾ انْدَفَعَتْ الشبهات، وزالت الاحتمالات.
فصل في بيان معنى الضرار
و « الضرار » : هو المضارَّةُ؛ قال تعالى :﴿ والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً ﴾ [ التوبة : ١٠٧ ]، ومعناه راجعٌ إلى إثارة العداوة، وإزالة الألفة، وإيقاع الوحشة؛ وذكر المفسرون فيه وجوهاً :
أحدها : ما تقدَّم في سَببِ نُزولِ الآيةِ من تطويلِ العِدَّةِ تسعة أشْهُرٍ، فأكثر.
ثانيها :« الضرارُ » سوء العشرة.
وثالثها : تضييق النفقة، وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال؛ لكي تختلع المرأة عنه بمالها.
قوله تعالى :﴿ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ فيه وجوه :
أحدها : ظلم نفسه؛ بتعريضها للعذاب.
وثانيها : ظلم نفسه؛ بأن فوَّت عليها منافع الدنيا والدِّين :
أمَّا منافع الدنيا : فإنَّه إذا اشتهر بين الناس بهذه المعاملة القبيحة فلا يرغب أحدٌ في تزويجه، ولا معاملته.
وأما منافع الدِّين فتضييعه للثواب الحاصل على حسن عشرة الأهل، والثواب على الانقياد لأحكام الله تعالى.
قوله :﴿ وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً ﴾ فيه وجوه :
أحدها : أنَّ من أمر بشيء، فلم يفعله بعد أن نصَّب نفسه منصب الطائعين، يقال : إنه استهزأ بذلك الأمر ولعب به؛ فعلى هذا يكون المراد أنَّ من وصلت إليه هذه التكاليف المتقدمة من العدَّة، والرَّجعة، والخلع، وترك المضارَّة، ويسأم لأدائها يكون كالمستهزئ بها، وهذا تهديدٌ عظيمٌ للعصاة من أهل الصلاة، وغيرهم.
وثانيها : ولا تتسامحوا في تكاليف الله تعالى، ولا تتهاونوا بها.
وثالثها : قال أبو الدَّرداء : كان الرجل يطلِّق في الجاهلية، ويقول :« طَلَّقْتُ، وَأَنَا لاَعِبٌ » ويعتق، وينكح، ويقول مثل ذلك؛ فنزلت هذه الآية، فقرأها رسول الله ﷺ، وقال :« مَنْ طَلَّقَ، أَوْ حَرَّرَ، أَوْ نَكَحَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لاَعِبٌ فَهو جدٌّ ».