قوله :﴿ بالمعروف ﴾ يجوز أن يتعلَّق بكلِّ من قوله :« رزقُهنَّ » و « كِسْوَتُهنَّ » على أنَّ المسألة من باب الإعمالن وهو على إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأُضمر في الثاني، فكان يقال : وكسوتهنَّ به بالمعروف. هذا إن أُريد بالرزق والكسوة، المصدران، وقد تقدَّم أنَّ الرزق يكون مصدراً، وإن كان ابن الطَّراوة قد رَّد على الفارسيّ ذلك؛ في قوله :﴿ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً ﴾ [ النحل : ٧٣ ] كما سيأتي تحقيقه في النَّحل، إن شاء الله تعالى. وإن أُريد بهما اسم المرزوق، والمكسوِّ كالطِّحن، والرِّعي، فلا بدَّ من حذف مضافٍ، تقديره : اتِّصال، أو دفع، أو ما أشبه ذلك، ممَّا يصحُّ به المعنى، ويكون « بالمعروف » متعلِّقاً بمحذوفٍ، على أنه حالٌ منهما. وجعل أبو البقاء العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه « على ».
والجمهور على « كِسْوَتهنَّ » بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمِّها، وهما لغتان في المصدر، واسم المكسوِّ وفعلها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولي « أَعْطَى » في جواز حذفهما، أو حذف أحدهما؛ اختصاراً أو اقتصاراً، قيل : وقد يتعدَّى إلى واحدٍ؛ وأنشدوا :[ المتقارب ]
١١٢٦- وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةٌ | كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ |
فصل
و ﴿ المولود لَهُ ﴾ هو الوالد، وإنَّما عبَّر عنه بهذا الاسم لوجوه :
أحدها : قال الزَّمخشريُّ : والسَّبب فيه أن يعلم أنَّ الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمَّهات؛ وأنشدوا للمأمون :[ البسيط ]
١١٢٧- وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ | مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أَبْنَاءُ |
وثالثها : ذكر الوالد بلفظ « المَوْلُودِ [ لَهُ ] » تنبيهاً على أنَّ نفقته عائدةٌ إليه، فيلزمه رعاية مصالحه ] كما قيل : كلُّه لك، وكلُّه عليك.
فإن قيل : فما الحكمة في قول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأخيه :﴿ قَالَ ياابنأم ﴾ [ طه : ٩٤ ] ولم يذكر أباه.
فالجواب : أنّه أراد بذكر الأم [ أنْ ] يذكر الشفقة فإنَّ شفقة الأمِّ أعظم من شفقة الأب.
فصل
اعلم أنَّ الله تعالى كما وصَّى الأمَّ برعاية جانب الطِّفل، في قوله :﴿ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ - وصَّى برعاية جانب الأمِّ، حتَّى تقوى على رعاية مصلحة الطفل، فأمره برزقها، وكسوتها بالمعروف، وهذا المعروف قد يكون محدوداً بشرطٍ وعقدٍ، وقد يكون غير محدودٍ إلاَّ من جهة العرف لأنّه إذا قام بما يكفيها من طعام وكسوتها، فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن لم يقم بما يكفيها من ذلكن تضرَّرت وضررها يتعدى إلى الود، ولمّا وصَّى الأمَّ برعاية الطفل أوّلاً ثم وصَّى الأب برعايته ثانياً، دلَّ على أنَّ احتياج الطفل إلى رعاية الأمِّ أشدُّ من احتياجه إلى رعاية الأب؛ لأنَّه ليس بين الطفل وبين رعاية الأمّ واسطةٌ أَلْبَتَّةَ؛ ورعاية الأب إنَّما تصل إلى الطفل بواسطة، فإنّه يستأجر المرأة على رضاعته، وحضانته بالنفقة، والكسوة، وذلك يدلُّ على أنَّ حقَّ الأمِّ أكثر من حقِّ الأب، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرةٌ مشهورةٌ.