فصل في المقصود من الآية


والمقصودُ من الآية أَنّه لا حرج في التعريض للمرأة في عِدَّة الوفاة، ولا فيما يُضمره الرجلُ من الرغبة فيها.
فإن قيل : إنَّ التعريضَ بالخطبة أعظم حالاً مِنْ أَنْ يميل بقلبه إليها، ولا يذكر باللِّسان شيئاً، فلمّا قدّم جواز التعريض بالخطبة، كان قوله بعد ذلك ﴿ أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ ﴾ جارٍ مجرى إيضاح الواضحات.
فالجواب : ليس المرادُ ما ذكرتم، بل المرادُ أنّه أباح التعريض، وحرّم التصريح في الحالِ، ثم قال :﴿ أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ ﴾ والمرادُ : أَنْ يعقد قلبه على أنه سيصرحُ بذلك في المستقبلِ، ففي أوَّل الآيةِ أباح التعريض في الحالِ، وحرَّم التصريح في الحالِ، وها هنا أباح له أن يعقد عليه على أنَّه سيصرِّحُ بذلك بعد انقضاء العدّة، ثم إنّه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك، فقال :« عَلِمَ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ » لأنَّ شهوةَ النفس إذا حصلت للنكاح، لا يكاد يخلُو ذلك المشتهي من العزم، والتَّمَنِّي، فلمّا كان دفع هذا الخَاطر، كالشيء الشَّاقِّ أَسقط عنه هذا الحرج، وأباحَ له ذلك، ثُمَّ قال :﴿ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ وهذا الاستدراك فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه استدراكٌ من الجملةِ قبله، وهي قوله :﴿ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ﴾ ؛ فإنَّ الذِّكر يقع على أنحاء كثيرةٍ، ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهُ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصُوص، ولو لم يُسْتَدْرَكْ، لكانَ من الجائز؛ لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ، وهو نظيرٌ :« زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِداً، ولَكِنْ [ لاَ ] يواجهُهُ بِشَرٍّ »، لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجته بالشَّرِّ، استُدْرِكَتْ هذه الحالةُ من بينها.
والثاني :- قاله أبو البقاء - : أنه مستدرَكٌ من قوله :﴿ فِيمَا عَرَّضْتُمْ ﴾ وليس بواضحٍ.
والثالث :- قاله الزمخشريٌّ - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل « لَكِنْ » تقديرُهُ :« فَاذْكُرُوهُنَّ، وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً » وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدرَاكِ من الجملةِ قبلَه، فلا حاجة إلى حذف؛ وإنما الذي يحتاجُهُ ما بعدَ « لَكِنْ » وقوعُ ما قبلها من حيث المعنى، لا من حيثُ اللفظُ؛ لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشَّرّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ.
قوله :﴿ سِرّاً ﴾ فيه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكونَ مفعولاً ثانياً.
والثاني : أنه حالٌ من فاعلِ « تُوَاعِدُوهُنَّ »، أي : لا تُوَاعِدُوهُنَّ مُسْتَخِفين بذلك.
والثالث : أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ، أي : مواعدةً سِرّاً.
والرابع : أنه حالٌ من ذلك المصدر المُعَرَّف، أي : المواعدةَ مستخفيةً.
والخامس : أَنْ ينتصِبَ على الظرف مجازاً، أي : في سِرٍّ.
وعلى الأقوالِ الأربعةِ : فلا بُدَّ من حذفِ مفعولٍ، تقديرهُ : لا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحاً.
والسِّرُّ : ضدُّ الجهرِ : وقيل : يُطْلَقُ على الوَطْءِ، وعلى الزِّننا بخُصُوصيَّةٍ؛ وأنشدوا للحُطَيْئة :[ الوافر ]


الصفحة التالية
Icon