، فالعزمُ بهذا المعنى جائزٌ على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز.
وإذا ثبتَ هذا فنقولُ : الإيجابُ سببُ الوجود ظاهراً، فلا يبعد أَنْ يُستفاد لفظ العزمِ من الوجودِ، وعلى هذا فقوله :﴿ وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح ﴾، أي : لا تحقِّقُوا، ولا تُنْشئَوا، ولا تُفرِّعوا منه فعلاً؛ حتى يبلغ الكتابُ أَجَلَهُ وهذا اختيارُ أَكْثَر المحققين.
الثالث : قال القفَّال : إنما لم يقُلْ : ولا تعزِمُوا على عقدةِ النكاح؛ لأن معناهُ : ولا تعقدوا عُقْدة.
قال القرطبيُّ : عزم الشيء عليه قال تعالى :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق ﴾ [ البقرة : ٢٢٧ ] وقال هنا :﴿ وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح ﴾. وحكى سيبويه : ضُرِبَ فلانٌ الظهر والبطنَ أي :« عَلَى ».
قال سيبويه : والحذفُ في هذه الأَشياء لا يقاسُ عليه.
وقال النحاسُ : ويجوز أَنْ يكون ولا تعقِدُوا عُقدة النكاح؛ لأَنَّ معنى « تَعْزِمُوا » و « تَعْقِدُوا » واحدٌ.
ويقال : تعزُمُوا، بضم الزاي.
فصل
اعلم أنَّ الإِنسان إذا فعل فعلاً فلا بُدَّ أَنْ يتقدَم ذلك الفعلَ ستُّ مُقَدِّماتٍ.
الأولى : أن يسنح له ذلك الفعل، ومعنى « يَسْنَحْ له » : أن يَجْنح إلى فعله، ويعرضُ له فعله.
وثانيها : أَنْ يفكِّر في فعله، بمعنى أن يفعله، أم لا. وثالثها : أن يخطِرَ بباله فعله، بمعنى أنه يترجَّحُ فعله على تركه. ورابعها : أن يريدُ فِعْلَهُ.
وخامسها : أَنْ يَهمّ بفعله، وهو عزمٌ غيرَ جازِمٍ.
وسادسها : أَنْ يعزِم عَزْماً جازِماً فيفعله.
فصل في أصل العقد
وأَصل العقد : الشدُّ، والمعهود، والأنكحةُ تُسمَّى عُقُوداً لأنها تعقد كعقود الحبل في التوثيق.
قوله :« عُقْدَةَ » في نصبه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعولٌ به على أنه ضمَّن « عَزَمَ » معنى ما يتعدَّى بنفسه، وهو : تَنْوُوا أو تُبَاشِرُوا، ونحو ذلك.
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر، وهو « عَلَى » ؛ فإنَّ « عَزَمَ » يتعدَّى بها، قال :[ الوافر ]
١١٤١- عَزَمْتُ عَلَى إقَامةِ ذِي صَبَاحٍ | لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ |
١١٤٢- وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأظَلُّهُ | حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَطْعِمِ |
والثالث : أنه منصوبٌ على المصدر؛ فإنَّ المعنى : ولا تعقدوا عقدة؛ فكأنه مصدرٌ على غير الصَّدر؛ نحو : قعدت جلوساً، والعقدة مصدرٌ مضاف للمفعول، والفاعل محذوفٌ، أى : عُقْدتكم النِّكاح.
قوله تعالى :﴿ حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ ﴾ فى « الكتاب » وجهان :
أحدهما : أن المراد به المكتوب، والمعنى : حتى تبلغ العدَّة المفروضة آخرها.
الثانى : أن يكون المراد « الكتابَ » نفسه، لأنه فى معنى الفرض؛ كقوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ] فيكون المعنى : حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته، وقال تعالى :﴿ إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] أى : مفروضة.
قال القرطبى : وقيل : فى الكلام حذف، أى : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، فالكتاب على هذا المعنى بمعنى القرآن.
ثم قال تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ ﴾ وهذا تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالماً بالسرّ، والعلانية؛ وجب الحذر منه فى السرِّ، والعلانية، فالهاء فى « فاحذروه » تعود على الله تعالى، ولا بدَّ من حذف مضاف، أى : فاحذروا عقابه. ويحتمل أن تعود على « مَا » فى قوله « مَا فِى أَنْفُسِكُمْ » بمعنى ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز، قاله الزمخشريُّ.
ثم قال :﴿ واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ أي : لا يعجِّل بالعقوبة.