وأمَّا المحظور فلا يجوز فيه صلاة الخوف؛ لأن هذا رخصةٌ، والرخصة إعانة؛ والعاصي لا يستحقّ الإعانة.
القسم الثاني : في الخوف الحاصل في غير القتال، كالهارب من الحرق، أو الغرب، أو السَّبع، أو المطالبة بدينٍ، وهو معسر خائفٌ من الحبس عاجزٌ عن بيِّنة الإعسار فلهم أن يصلُّوا صلاة الخوف؛ لأن قوله تعالى :﴿ فَإنْ خِفْتُمْ ﴾ مطلقٌ يتناول الكلَّ، فإن قيل : المراد منه الخوف من العدوِّ حال المقاتلة.
قلنا : سلمنا ذلك، ولكن علمنا أنّه إنّما ثبت هناك، لدفع الضَّرر، وهذا المعنى قائمٌ هنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً هنا.

فصل في عدد ركعات صلاة الحضر والسفر والخوف


ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم.
وروى مجاهد، عن ابن عباسٍ قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السَّفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
وقال سعيد بن جبير : إذا كنت في القتال، وضرب الناس بعضهم بعضاً، فقل سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، واذكر الله فتلك صلاتك.

فصل


قال القرطبي : والمقصود من هذه الآية، أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحالٍ، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن باقي العبادات؛ لأنها تسقط بالأعذار.
قال ابن العربيّ : ولهذا قال علماؤنا : إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحالٍ، ولا تحوز النيابة فيها ببدنٍ، ولا مالٍ، فيقتل تاركها كالشهادتين.
قوله :﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ يعني بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة ﴿ فاذكروا الله ﴾ أي : فصلُّوا الصلوات الخمس. والصلاة قد تسمَّى ذكراً، قال تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذِكْرِ الله ﴾ [ الجمعة : ٩ ]. وقيل :﴿ فاذكروا الله ﴾ أي : فاشكروه؛ لأجل إنعامه عليكم بالأمن.
وطعن القاضي في هذا القول؛ بأن الشُّكر يلزم مع الخوف، كما يلزم مع الأمن؛ لأن نعم الله تعالى متصلة في الحالين.
وقيل : إنَّ قوله تعالى :﴿ فاذكروا الله ﴾ يدخل تحته الصلاة، والشكر جميعاً.
قوله :﴿ كَمَا عَلَّمَكُم ﴾ الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدر محذوفٍ، أو حالاً من ضمير المصدر المحذوف، وهو الظاهر، ويجوز فيها أن تكون للتعليل، أي : فاذكروه لأجل تعليمه إيَّاكُمْ، و « مَا » يجوز أن تكون مصدريةً، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون بمعنى « الَّّذِي »، والمعنى : فصلُّوا الصَّلاة كالصَّلاة التي عَلَّمَكُمْ، وعبَّر بالذكر عن الصلاة، ويكون التشبيه بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة الأمن. قال ابن عطيَّة :« وعَلَى هذا التأويلِ يكون قوله :» مَا لَمْ تَكُونُوا « بدلاً من » مَا « في » كَمَا « وإلاَّ لم يتَّسق لفظ الآية » قال أبو حيان :« وهو تخريجٌ مُمْكِنٌ، وأحسن منه أن يكون » مَا لَمْ تَكُونُوا « بدلاً من الضمير المحذوف في » عَلَّمَكُم « العائد إلى الموصول؛ إذ التقدير : عَلَّمَكُمُوهُ، ونصَّ النحويون على أنه يجوز : ضَرَبْتُ الذي رَأَيْتُ أَخَاكَ » [ أي : رَأَيْتُهُ أَخَاكَ ]، ف « أَخَاكَ » بدلٌ من العائد المحذوف «.


الصفحة التالية
Icon