القول الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : معنى الآية : أنَّ من يتوفَّى منكم، ويذرون أزواجاً، وقد وصّوا وصيَّة لأزواجهم، بنفقة الحول، وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك، وخالفن وصيَّة أزواجهنَّ، بعد أن يقمن أربعة أشهرٍ وعشراً؛ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروفٍ، أي : نكاحٌ صحيحٌ؛ لأن إقامتهنَّ بهذه الوصيَّة غير لازمة.
قال : والسَّبب : أنَّهم كانوا في الجاهليَّة يوصون بالنَّفقة، والسُّكنى حولاً كاملاً، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنَّ ذلك غير واجبٍ، وعلى هذا التَّقدير، فالنَّسخ زائلٌ، واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ :
أحدها : أنَّ النَّسخ خلاف الأصل؛ فوجب المصير إلى عدمه، بقدر الإمكان.
الثاني : أنَّ النَّاسخ يكون متأخِّراً عن المنسوخ في النُّزول، وإذا كان متأخِّراً عنه في النُّزول، يجب أن يكون متأخِّراً عنه في التِّلاوة، وهو إن كان جائزاً في الجملة إلاَّ أنَّ قولنا يعدّ من سوء التَّرتيب، وتنزيه كلام الله واجبٌ بقدر الإمكان، ولمَّا كانت هذه الآية متأخِّرةً عن تلك في التِّلاوة؛ كان الأولى ألاّ يحكم بكوها منسوخةً بتلك.
الثالث : أنَّه ثبت عند الأصوليِّين متى وقع التَّعارض بين التَّخصيص، والنَّسخ، كان النَّسخ أولى، وها هنا إن خصَّصنا هاتين الآيتين بحالتين على ما هو قول مجاهد؛ اندفع النَّسخ، فكان قول مجاهد أولى من التزام النَّسخ من غير دليلٍ، وأمَّا على قول أبي مسلم، فيكون أظهر؛ لأنكم تقولون : تقدير الآية : فعليهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها :
فليوصوا وصيَّةً، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول : بل تقدير الآية : والذين يتوفون منكم، ولهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها : وقد أوصوا وصيَّةً لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزَّوج، وإذا كان لا بدَّ من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضمارنا ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكره أبو مسلمٍ؛ لم يلزم تطرُّق النَّسخ إلى الآية، فيكون أولى.
وإذا ثبت هذا فنقول : الآية من أولها إلى آخرها، تكون جملةً واحدةً شرطيَّةً، فالشَّرط هو قوله :﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ فهذا كلُّه شرطٌ والجزاء هو قوله :﴿ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ﴾ فهذا تقرير قول أبي مسلمٍ.
قال ابن الخطيب : وهو ف ي غاية الصِّحَّة، وعلى تقدير باقي المفسِّرين، فالمعنى : والذين يتوفَّون منك أيُّها الرِّجال، ويذرون زوجاتٍ فليوصوا وصيَّةٌ، وكتب عليكم الوصيَّة بأن تمتِّعوهنَّ متاعاً، أي : نفقة سنةٍ لطعامها، وكسوتها، وسكناها، غير مخرجين لهن، فإن خرجن من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة، فلا جناح عليكم يا أولياء الميِّت، فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف، يعني : التَّزين للنِّكاح، ولرفع الجناح عن الرِّجال، وجهان :
أحدهما : لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج؛ لأنَّ مقامها في بيت زوجها حولاً، غير واجبٍ عليها، فخيَّرها الله تعالى بين : أن تقيم حولاً، ولها النَّفقة والسُّكنى، وبين أن تخرج إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشراً.


الصفحة التالية
Icon