واعلم أنَّ مدلولَ « عسى » إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق، فعلى هذا : فكيف دَخَلت عليها « هل » التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى، قال الزمخشري :« والمعنى : هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا، يعني : هل الأمرُ كما أتوقّعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقول : عَسَيْتُم ألا تقاتلوا، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ، فأدخلَ » هل « مستفهِماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ، وثَبَتَ أنَّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه؛ كقوله تعالى :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان ﴾ [ الإنسان : ١ ] معناه التقريرُ » وهذا من أَحسنِ الكلامِ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ؛ مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها؛ وبوقوعها خبراً ل « إنَّ » في قوله :[ الرجز ]
١١٦٠- لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا... وهذا لا دليلَ فيه؛ لأنه على إضمار القول؛ كقوله :[ البسيط ]
١١٦١- إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ | لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا |
قوله :﴿ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ ﴾ هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله. و « ما » في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، ومعناها الاستفهامُ، وهو استفهامُ إنكارٍ. و « لنا » في محلِّ رفع خبر ل « ما ».
و « أَلاَّ نُقَاتِلَ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ.
أظهرها : أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ وهو قول الكسائي والتقديرُ : وما لنا في ألاَّ نقاتل، أي : في تركِ القتالِ، ثم حُذِفَتْ « في » مع « أَنْ » فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه : أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو « لنا » أو بما يتعلَّق هو به على حسبِ ما تقدَّم في « مِنْ بعد موسى ».
قال البغوي : فإن قيل : فما وجه دخول « أن » في هذا الموضع، والعرب لا تقول ما لك ألاَّ تفعل، وإنما يقال : ما لك لا تفعل؟ قيل : دخول « أن » وحذفها لغتان صحيحتان، فالإثبات كقوله تعالى :﴿ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين ﴾ [ الحجر : ٣٢ ]، والحذف كقوله تعالى :﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله ﴾ [ الحديد : ٨ ] وقال الفراء : الكلام ها هنا محمول على المعنى؛ لأن قولك : ما لك لا تقاتل؟ معناه : ما يمنعك أن تقاتل، فلما كان معناه المنع حسن إدخال « أن » فيه كقوله ﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ ﴾ [ ص : ٧٥ ] وقوله :﴿ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين ﴾ [ الحجر : ٣٢ ] ورجح الفارسي قول الكسائي على قول الفراء.