﴿ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ] والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه، والإجماع اليوم منعقدٌ على أنه من فروض الكفايات، إلاَّ أن يدخل المشركون ديار المسلمين؛ فيتعيّن الجهاد حينئذٍ على الكلِّ.
وقال آخرون : هو فرض عينٍ؛ واحتجُّوا بقوله :« كُتِبَ » وهو يقتضي الوجوب، وقوله « عَلَيْكُمْ » يقتضيه أيضاً، والخطاب بالكاف في قوله « عَلَيْكُمْ » لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد؛ كقوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ].
وقال الجمهور : هو فرضٌ على الكفاية.
فإن قيل هذا الخطاب للمؤمنين، فكيف قال :﴿ وَهُوَ كُرهٌ لَكُم ﴾، وهذا يشعر بكون المؤمنين كارهين لحكم الله، وتكليفه، وذلك غير جائزٍ؛ لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله وتكليفه، بل يرضى بذلك، ويحبُّه، ويعلم أنه صلاحه، وتركه فساده؟
والجواب من وجهين :
أحدهما : أن المراد من « الكُرْهِ » كونه شَاقّاً على النفس، لأن التكليف عبارةٌ عن إلزام ما فيه كلفةٌ، ومشقةٌ، ومن المعلوم : أن الحياة من أعظم ما يميل الطبع إليها، فلذلك كان القتال من أشقِّ الأشياء على النفس، لأنَّ فيه إخراج المال، والجراحات، وقطع الأطراف، وذهاب الأنفس، وذلك أمرٌ يشق على الأنفس.
والثاني : أن يكون المراد منه كراهتهم للقتال قبل أن يفرض؛ لما فيه من الخوف، ولكثرة الأعداء فبيَّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خيرٌ لكم من تركه، لئلاَّ تكرهونه بعد أن فرض عليكم.
قال عكرمة : نسخها قوله تعالى :﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [ النساء : ٤٦ ] يعني أنهم كرهوه ثم أحبوه.
قوله ﴿ وعسى أَن تَكْرَهُوا ﴾، « عَسَى » فعلٌ ماضٍ، نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإشفاق، وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبر، ولا يكون خبرُها إلا فِعلاً مضارعاً مقروناً ب « أَنْ »، وقد يجيءُ اسماً صريحاً؛ كقوله [ الرجز ]

١٠٤٩ - أَكْثَرْتَ فِي العَذْلِ مُلِحّاً دَائِمَا لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا
وقالت الزَّبَّاءُ :« عَسَى الغُوَيْرُ أَبُؤُسَا » وقد يَتَجَرَّد خبرها مِنْ « أَنْ » ؛ كقوله :[ الطويل ]
١٠٥٠ - عَسَى فَرَجٌ يأْتِي بهِ اللَّهُ إِنَّهُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ في خَلِيقَتِهِ أَمْرُ
وقال آخر :[ الوافر ]
١٠٥١ - عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبٌ
وقال آخر :[ الوافر ]
١٠٥٢- فَأَمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولَكِن عَسَى يغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ
وتكونُ تامّة، إذا أُسندَتْ إلى « أَنْ » أَوْ « أنَّ » ؛ لأنهما يَسدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها، والأصحُّ أنها فِعْلٌ، لا حرفٌ، لاتصالِ الضمائر البارزةٍ المرفوعةِ بها.
قال تعالى :﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ ﴾ [ محمد : ٢٢ ] ويرتفع الاسم بعده فقوله :« عَسَى زَيْدٌ » معناه : قرب ووزنُها « فَعَل » بفتح العين، ويجوز كسر عينها، إذا أسندت لضمير متكلم، أو مخاطبٍ أو نون إناثٍ وهي قراءةُ نافعٍ، وستأتي إن شاء الله تعالى ولا تتصرَّفُ بل تلزمُ المضيَّ.


الصفحة التالية
Icon