وقال ﷺ :« مَنْ شَرِبَ بيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ على إِناءٍ يُريدُ بِهِ التَّواضُع كَتَبَ اللهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ وهو إِناء عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسّلام - إذا اطَّرَح القدح فقال أَفّ هذا مع الدّنيا » أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر.
قوله :﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ هذه القراءةُ المشهورةُ، وقرأ عبدالله، وأُبَيّ والأعمش « إِلاَّ قَليلٌ » وتأويله أنّ هذا الكلام وإِنْ كان موجباً لفظاً فهو منفيّ معنى، فإنه في قُوَّة : لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم، فلذلك جعلهُ تابعاً لِمَا قبلهُ في الإِعْرابِ. قال الزَّمخشريُّ : وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللَّفظ جانباً، وهو بابٌ جليلٌ من عِلْم العربيةِ، فلمَّا كان معنى « فَشَرِبُوا مِنْهُ » في معنى « فلم يُطِيعوه » حمل عليه، ونحوه قول الفرزدق :« لم يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ » يشير إلى قوله :[ الطويل ]
١١٦٧- وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ | مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ |
ولا بُدَّ من ذكر هذه المسألة لعموم فائدتها فأقول : إذا وقع في كلامهم استثناءٌ موجبٌ نحو :« قَامَ القَوْمُ إِلاَّ زَيْداً » فالمشهورُ وجوبُ النَّصب على الاستثناءِ. وقال بعضهم : يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ « إِلا » ما قبلها في الإِعراب فتقول :« مَرَرْتُ بالقوم إلا زيدٍ » بجرّ « زَيْدٍ » واختلفوا في تابعيَّة هذا، فعبارةُ بعضهم أَنَّهُ نعتٌ لما قبلَه، ويقولُ : إنه يُنْعَتُ بإِلاَّ، وما بعدها مُطْلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً، أم نكرةً مضمراً، أم ظاهراً، وهذا خارجٌ عن قياس باب النَّعتِ لما قد عرَفْتَ فيما تقدَّم.
ومنهم مَنْ قال : لا يُنْعَتُ بها إِلاَّ نكرةً، أو معرفةً بأل الجنسيّةِ لقربها من النّكرة. ومنهم مَنْ قال : قَولُ النَّحويين هنا نعتٌ : إِنَّما يعنُون به عطفَ البيانِ؛ ومن مَجِيء الإتباع بما بعد « إِلاَّ » قوله :[ الوافر ]
١١٦٨- وَكُلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ | لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ |
فصل
لما ذكر تعالى أَنّ هذا الابتلاء ليتميز المُطِيعُ مِنَ المخالف، أخبر بعد ذلك بأَنَّهُم لما هجموا على النَّهرِ شرب أَكثرهم، وأطاع قليلٌ، فلم يشربوا، فأَمَّا الَّذين شربُوا فَرُوي أَنَّهم اسودَّت شفاههم وغلبهم العطش، ولم يرووا، وبقوا على شَطّ النَّهر وجبنوا عن لقاءِ العدُوّ، وأَمَّ الَّذين أطاعوا، فقوي قلبهم، وصحَّ إِيمانهُمُ.
قال السُّدِّيُّ : كانوا أربعة آلاف، وقال الحسن، وهو الصَّحيح : أنهم كانُوا على عَدَدِ أهل بدرِ ثلاثمائة، وبضعة عشر، ويدُلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لأصحابه يوم بدر :