« أَنَّتُمُ اليَوْمَ عَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوت حين عَبَرُوا النَّهَر، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلاَّ مُؤمنٌ ».
قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلاثمائة، وثلاثة عشر رجلا ولا خلاف بين المُفسِّرين أَنَّ الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم، وإنما اختلفوا هل كان رجوعهم بعد مجاوزة النهر أو قبله؟ والصَّحيح : أنَّهُم لم يجاوزوا النَّهر، وإِنَّما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ ﴾.
قال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ : كان المُخالِفون أهل شكٍّ، ونِفاقٍ، فقالوا :﴿ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ﴾ فانحرفوا، ولم يجاوزُوا النَّهرَ.
وقال آخرون : بل جاوزُونا النَّهرَ، وإنما كان رجوعهم بعد المجاوزة، ومعرفتهم بجالوت، وجنوده؛ لقولهم ﴿ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ﴾.
قوله :﴿ قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً ﴾ وهذا يدلُّ على أَنَّهُم حين لا قوا العدوّ، وعاينوا كثرتهم انقسموا فرقتين إحداهما : رجعت وهي المخالفة، وبقيت المطيعة.
قوله :﴿ جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ « هو » ضميرٌ مرفوعٌ منفصِلٌ مؤكِّدٌ للضّمير المستكنِّ في « جَاوَزَ ».
قوله :« والَّذِين » يحتملُ وجهين :
أظهرهما : أنه عطفٌ على الضَّمير المستكنِّ في « جَاوَزَ » لوجود الشَّرط، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضَّمير المنفصلِ.
والثاني : أَنْ تكُون الواوُ للحالِ، قالوا : ويلزَمُ من الحالِ أن يكونُوا جاوزوا معه، وهذا القائلُ يجعلُ « الَّذِينَ » مبتدأ، والخبرَ قالوا :« لاَ طَاقَةَ » ؛ فصار المعنى :« َفَمَّا جَاوَزَهُ، والحالُ أنَّ الَّذِين آمنوا قالوا هذه المقالة »، والمعنى ليس عليه.
ويجوزُ إدغامُ هاء « جَاوَزَهُ » في هاء « هُو »، ولا يُعْتدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ؛ لأنها ضعيفةٌ، وإِنْ كان بعضهم استضعف الإِدغام، قال :« إِلاَّ أَنْ تُخْتَلَسَ الهاءُ »، يعني : فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءة أبي عمرو، وأدغم أيضاً واوَ « هُوَ » في واو العطف بخلاف عنه، فوه الإِدغام ظاهرٌ لالتقاءِ مثلين بشروطِهما. ومَنْ أظهر وهو ابن مجاهدٍ، وأصحابُهُ قال :« لأَنَّ الواو إِذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ، وإذا سكنت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلها ضمَّةٌ، فصارَت نظير :﴿ آمَنُواْ وَكَانُواْ ﴾ [ يونس : ٦٣ ] فكما لا يُدغم ذاك لا يدغم هذا. وهذه العِلَّةُ فاسدةٌ لوجهين :
أحدهما : أنها ما صارَتْ مثلَ » آمنوا، وكانوا « إلا بعد الإِدغام، فكيف يُقال ذلك؟ وأيضاً فإِنَّهُم أدغموا :﴿ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] وهو نظيرُ :﴿ فِي يَوْمٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٨ ] و ﴿ الذى يُوَسْوِسُ ﴾ [ الناس : ٤ ] بعين ما عَلَّلوا به.
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ، كهذه الآية، ومثله :﴿ هُوَ والملائكة ﴾ [ آل عمران : ١٨ ] ﴿ هُوَ وَجُنُودُهُ ﴾ [ القصص : ٣٩ ]، فلو سكنت الهاءُ؛ امتنع الإِدغامُ نحو ﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٢٧ ] ولو جرى فيه الخلافُ أيضاً لم يكن بعيداً، فله أُسوة بقوله :﴿ خُذِ العفو وَأْمُرْ ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ] بل أولى لأَنَّ سكون هذا عارضٌ بخلافِ :» الْعفوَ وأمر «.
قوله تعالى :﴿ والذين آمَنُواْ مَعَهُ ﴾.