ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت، بل المراد : أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ « مع » لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ﴾ [ الشرح : ٥ ] واليسر لا يكون مع العسر.
قوله :﴿ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم ﴾ [ لنَا ] هو : خبر « لا »، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بطاقة، وكذلك ما بعده من قوله « اليَومَ » و « بِجَالُوتَ » ؛ لأنه حينئذٍ يصير مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ ينصبُ منوناً، وهذا كما تراهُ مبنياً على الفتح، بل « اليَوْمَ » و « بِجَالُوتَ » متعلِّقان بالاستقرار الَّذي تعلَّق به « لنَا ».
وأجاز أبو البقاء : أن يكون « بِجَالُوتَ » هو خبرَ « لا »، و « لنَا » حينئذٍ : إِمَّا تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوف على أَنَّه صفةٌ لطاقة.
والطَّاقةُ : القُدرةُ وعينُها واو؛ لأَنَّها مِنَ الطَّوقِ وهو القُدرةُ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزَّوائدِ، فإِنَّها من « أَطَاقَ » ونظيرها : أجَابَ جابةً، وأَغَارَ غارةً، وَأَطَاعَ طَاعةً.
و « جالوت » اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ، لا اشتقاقَ له، وليس هو فَعَلوتاً من جال يَجُول، كما تقدَّم في طَالُوت، ومثلهما داود.
قوله :﴿ كَم مِّن فِئَةٍ ﴾ « كَمْ » خبريةٌ، فإنَّ معناها التَّكثيرُ، ويدلُّ على ذلك قراءة أبي :« وكَائِن »، وهي للتكثير، ومحلُّها الرَّفعُ بالابتداء، و « مِنْ فِئَةٍ » تمييزُها، و « مِنْ » زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيءُ مميِّزها، ومميِّز « كَائِن » مجروراً بمِنْ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك، وقد تُحْذفُ « مِنْ » فيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصَّحيح، وقد يُنصَبُ حَمْلاً على مُميِّز « كَم » الاستفهامية، كما أَنَّهُ قد يُجَرُّ مميِّز الاستفهاميّةِ حَمْلاً عليها، وذلك بشروطٍ ذكرها النُّحاةُ.
قال الفرَّاء : لو ألغيت « مِنْ » ها هنا جاز فيه الرَّفع والنَّصبُ والخفضُ.
أَمَّا النَّصبُ فلأنّ « كم » بمنزلة عددٍ، فينصب ما بعدهُ نحو : عشرونَ رجلاً. وَأَمَّا الخَفْضُ، فبتقدير دخول حرف « من » عليه.
وأَمَّا الرَّفعُ، فعلى نيَّة الفِعْل تقديره « كم غلبت فئةٌ » ومِنْ مجيءِ « كَائِن » منصوباً قولُ الشاعر :[ الخفيف ]

@١١٦٩- أُطْرُدِ اليَأْسَ بالرَّجَاءِ فَكَائِنْ آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وَأَجازُوا أَنُ يكونَ « مِنْ فِئَةٍ » في محلِّ رفع صفةً ل « كم » فيتعلَّق بمحذوفٍ. و « غَلَبَت » هذه الجملةُ هي خبرُ « كم » والتقديرُ : كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبٌ الفئاتِ الكثيرةَ.
وفي اشتقاق « فئة » قولان :
أحدهما : أنها من فاء يَفِيء، أي : رجع فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة.
والثاني : أَنَّها مِنْ فَأَوْتُ رأسَه أي : كسرتُه، فحُذِفت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة، إِلاَّ أَنَّ لامَ مئة ياءٌ، ولامَ هذه واوٌ، والفِئَةُ : الجماعةُ من النَّاسِ قلَّت، أو كثرت، وهي جمعٌ لا واحد له من لفظه، وجمعها : فئات وفئون في الرَّفع، وفئين في النَّصب والجرِّ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ، فإنَّ الجماعَةَ من النَّاسِ يَرْجِعُ بعضهم إلى بعضٍ، وهم أيضاً قطعةٌ من النَّاسِ كقطَعِ الرَّأْسِ المكسَّرة.


الصفحة التالية
Icon