و « يَعْلَمُ » هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين، أو استئنافاً، أو حالاً. والضَّمير فِي « أيْدِيهم » و « خَلْفَهُم » يعود على « مَا » في قوله تعالى :﴿ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره. وقيل : يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ « ما » دون غيرهم. وقيل : يعود على ما دلَّ عليه « مَنْ ذَا » من الملائكة والأنبياء. وقيل : من الملائكة خاصّةً.
فصل
قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسديُّ :« مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » ما كان قبلهم من أمور الدُّنيا « وَمَا خَلْفَهُم » ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم.
وقال الضَّحَّاك والكلبي :« يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » يعني الآخرة؛ لأنَّهم يقدمون عليها. « وَمَا خَلفَهُمْ » يعني الدُّنيا؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم.
وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاس :« مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم » من السماء إلى الأرض « وَمَا خَلْفَهُم » يريد ما في السَّموات.
وقال ابن جريج :« مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » : مضيّ آجالهم « وما خَلْفَهُم » : ما يكون بعدهم.
وقال مقاتل :« مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ » ما كان قبل الملائكة. « وَمَا خَلْفَهُم » أي : ما كان بعد خلقهم.
وقيل :« مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » ما قدموا من خير وشر « وَمَا خَلْفَهُمْ » ما هم فاعلوه.
والمقصود من هذا الكلام : أنَّه عالم بأحوال الشَّافع، والمشفوع له، فيما يتعلَّق باستحقاق الثَّواب والعقاب؛ لأنَّه عالمٌ بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيءٌ والشُّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطَّاعة ما يستحقُّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله، ولا يعلمون أنَّ الله هل أذن لهم في تلك الشَّفاعة، أم لا.
قوله :﴿ بِشَيْءٍ ﴾ متعلِّقٌ ب « يحيطون ». والعلم عنا بمعنى المعلوم؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم :« اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا » وحديث موسى، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - « مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلاَّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر » ولكون العلم بمعنى المعلوم، صحَّ دخول التَّبعيض، والاستثناء عليه. و « مِنْ عِلْمِهِ » يجوز أن يتعلَّق ب « يحيطون »، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء، فيكون في محلِّ جر. و « بمَا شَاءَ » متعلِّقٌ ب « يحيطون » أيضاً، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول، بإعادة العامل بطرق الاستثناء، كقولك :« مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلاَّ بِزَيْدٍ »، ومفعول « شَاءَ » محذوفٌ تقديره : إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله :﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ ﴾.