فصل


هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النَّبيين، والصِّديقين والشهداء والصالحين.
وفي معنى الاستثناء قولان :
أحدهما : أنَّهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا :﴿ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ ﴾ [ البقرة : ٣٢ ].
الثاني : أنَّهم لا يعلمون الغيب إلاَّ بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى ﴿ عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ [ الجن : ٢٦-٢٧ ].
قوله :﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض ﴾ : الجمهور على « وَسِعَ » بفتح الواو وكسر السِّين وفتح العين فعلاً ماضياً.
و « كُرْسِيُّه » بالرَّفع على أنَّه فاعله، وقرئ « وَسْعَ » سكَّن عين الفعل تخفيفاً نحو : عَلْمَ في عَلِمَ. وقرئ أيضاً :« وَسْعُ كُرْسِيِّه » بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء، و « كُرْسِيِّه » خفضٌ بالإضافة « السَّمَوَاتُ » رفعاً على أنه خبر للمبتدأ.
واعلم أنه يقال : وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ولا يسعك هذا أي : لا تطيقه ولا تحتمله، ومنه قوله ﷺ :« لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي » أي : لا يحتمل غير ذلك.
والكُرْسِيُّ : الياء فيه لغير النَّسب، واشتقاقه من الكِرْسٍ، وهو الجمع؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم؛ ومنه قول العجَّاج :[ الرجز ]
١١٧٨- يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا؟... قَالَ : نَعَمْ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وقيل : أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض. [ وأكرست الدَّار : إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها، وتلبَّد بعضها فوق بعض ]، وتكارس الشَّيء : إذا تركب ومنه الكرَّاسة، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ. و « الكُرْسِيُّ » هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ.
وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ، وفيه لغتان : أشهرهما ضمُّ كافه، والثانية كسرها، وقد يعبَّر به عن الملك؛ لجلوسه عليه، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ؛ ومنه :[ الرجز ] في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي... وعن العلم؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها؛ ومنه قيل للعلماء :« الكَرَاسِيّ » ؛ قال القاتل :[ الطويل ]
١١٧٩- قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
١١٨٠- يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور، ونوازلها؛ ويعبَّر به عن السَّرِّ، قال :[ البسيط ]
١١٨١- مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ وَلاَ بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللهُ - مَخْلُوقِ
وقيل : الكرسيُّ لكلِّ شيء : أصله.

فصل في حقيقة « الكُرْسِيّ »


واختلفوا فيه على أربعة أقوال :
أحدها : أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات، والأرض قال الحسن : هو العرش نفسه.


الصفحة التالية
Icon