الإشكال الرابع : أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من دلالة طلوع الشَّمس عليه؛ لأنَّا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدّلات واختلافات، والتبدُّل قويّ الدلالة على الحاجة إلى المؤثِّر القادر، وأمَّا الشمس فلا نرى في ذاتها تبدُّلاً، ولا في صفاتها، ولا في منهج حركاتها ألبتَّة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأجلى لأقوى للأضعف الأخفى، وإنه لا يجوز.
الإشكال الخامس : أنَّ النمروذ، لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تبارك وتعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشَّمس أن يقول : طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إلهٌ، فقل له يطلعها من المغرب؛ وعند ذلك التزم المحقِّقون من المفسِّرين ذلك، فقالوا : إنه لو أورد هذا السُّؤال، لكان من الواجب أن تطلع الشَّمس من المغرب، ومن المعلوم : أن إفساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثيرٍ من إلزامه بطلوع الشَّمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشَّمس من المشرق دليلاً على وجود الصَّانع، وحينئذٍ يصير دليله الثَّاني ضائعاً؛ كما صار دليله الأوَّل ضائعاً، فالذي حمل سيدنا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أن يترك الجواب عن ذلك السؤال الرَّكيك، والتزام الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال والتمسُّك بدليلٍ لا يمكنه تمشيته، إلا بالتزام طلوع الشَّمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب، فإنه يضيع دليله الثَّاني أيضاً كما ضاع الأوَّل، والتزام هذه المحذورات لا يليق بأقلِّ الناس علماً؛ فضلاً عن أفضل العقلاء، وأعلم العلماءس، فظهر بهذا أنَّ الذي أجمع جمهور المفسِّرين عليه ضعيفٌ.
قال ابن الخطيب : وأما الوجه الذي ذكرناه، فلا يتوجَّه عليه شيءٌ من هذه الإشكالات، لأنَّا نقول : لما احتجَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالإحياء والإماتة، أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء، وهو أنَّك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطةٍ، فلا تجد إلى إثبات ذلك سبيلاً، وإن ادعيت حصولها بواسطة حركات الأفلاك، [ فنظيره أو ما يقرب منه حاصلٌ للبشر؛ فأجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن الإحياء والإماتة، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ]، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى؛ بخلاف الخلق، فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك، فلا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، وعلى هذا تزول الإشكالات المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم.