الحجة الثانية : قوله تعالى في حقه :﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾ وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة، ما كان حاصلاً له قبل ذلك، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسمل أنه لم يكن حاصلاً له.
الحجة الثالثة : قوله :﴿ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد، وطمأنينة، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك.
الحجة الرابعة : انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم.
واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه :
منها قوله تعالى :﴿ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله :﴿ كَمْ لَبِثْتَ ﴾ وبقوله :﴿ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ ﴾، وبقوله :﴿ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ ﴾، وبقوله :﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾، وبقوله ﴿ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ﴾ وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر، قال تعالى :﴿ والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٩١ ]، فجعله آية للناسن دليلٌ على مزيد التشريف.
ومنها ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير، ومنهم العزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى « بابل » فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ، وهو على حمارٍ، فربط حماره، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، فعجب من ذلك، وقال ﴿ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شابٌّ ثم أعمى عنه عيون الإنس والسِّباع والطَّير، ثمَّ أحياه الله بعد المائة، ونودي من السَّماء يا عزير « كَمْ لَبِثْتَ » بعد الموت، فقال :« يَوْماً » وذلك أن الله أماته ضحًى في أول النهار، وأحياه بعد مائة عامٍ آخر النَّهار قبل غيبوبة الشَّمس، فلما أبصر من الشَّمس بقيةً قال :« أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » فقال الله تبارك وتعالى :﴿ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ ﴾ من التِّين، والعنب « وَشَرَابِكَ » من العصير لم يتغير طعمه، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما قال :« وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ » فنظر فإذا هو عظامٌ بيض تلوح وقد تفرَّقت أوصاله، وسمع صوتاً : أيَّتها العظام البالية، إنِّي جاعلٌ فيك روحاً، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعضٍ، ثم التصق كلُّ عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع، والذِّراع إلى مكانه، ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب والعروق، ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد، ثمَّ نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق، فخرَّ عزير ساجداً، وقال :﴿ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ثم إنَّه دخل بيت المقدس.


الصفحة التالية
Icon