الثاني : أن الأحوال تختلف، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي قوتٍ آخر المنع، فيما لا يتقدَّم فيه إذنٌ.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أمر الله تعالى إبراهيم بهذا، قبل أن يولد، وقبل أن ينزل عليه الصُّحف.

فصل في الطير المأخوذة


قال مجاهدٌ، وعطاءٌ، وابن جريج : أخذ طاووساً، وديكاً، وحمامةً، وغراباً. ونقل عن ابن عباس : ونسراً بدل الحمامة. وقال عطاء الخراساني : بطَّة خضراء، وغراباً أسود، وحمامةً بيضاء، وديكاً أحمر « فَصُرْهُنَّ » أي : قطِّعهنَّ، ومزقهن، وقيل أملهُنَّ على ما تقدَّم.

فصل في الحكمة في نوع الطير وعدده


وها هنا سؤالات :
الأول : ما الحكمة في كونه أمره بأخذ أربعةٍ من الطير، ولم يأمره بأكثر، ولا بأقل؟!
الثاني : ما الحكمة في كونها من الطير، دون غيرها من الحيوان؟!
الثالث : هل كان من حيوان البحر، ثم الوحش، والطير وبهم الأنعام؟
الرابع : هل كان الأربعة كلُّ واحدٍ مخلوقٌ من غالب عنصرٍ من العناصر الأربعة، كالطير، مخلوق من غالب عنصر الهواء، والسمك مخلوق من غالب عنصر الماء، وحيوان البرّ مخلوقٌ من غالب عنصر التراب، وسراج البحر، والدرّاج التي هي تطيرُ بالليل كلُّها نارٌ، والسَّمندل الذي يعيش في النار فإنهم مخلوقون من غالب عنصر النار.
فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمِّها إلى نفسه بعد أخذها؟
فالجواب : فائدته أن يتأمل فيها، ويعرف أشكالها، وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهَّم أنَّها غير تلك، وأجمع المفسِّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن، وأنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قطع أعضاءها، ولحومها، وريشها، ودماءها، وخطل بعضها ببعضٍ؛ غير أبي مسلم؛ فإنه أنكر ذلك، وقال : إنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما طلب إحياء الميت من الله تعالى، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه.
والمراد ب ﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ الإمالةُ والتمرين على الإجابة، وتعلمها، أي : فعوَّد الطير الأربعة، بحيث تصير إذا دعوتها، أجابتك. والغرض منه ذكر مثالٍ محسوسٍ في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن.
واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ :
أحدها : أنَّ المشهور في قوله :« فَصُرْهُنَّ » أي : أملهنَّ، وأمَّا التقطيع والذبح، فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل، وهو لا يجوز.
وثانيها : لو كان المراد قطِّعهنَّ، لم يقل إليك؛ فإنَّ ذلك لا يتعدى بإلى.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديمٌ، وتأخيرٌ، تقديره : فخذ إليك أربعةً من الطير، فصرهن؟
قلنا : التزام التقديم والتَّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر.
وثالثها : أن الضمير في قوله :﴿ ثُمَّ ادعهن ﴾ عائدٌ إليها لا إلى أجزائها، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً، وكان الموضوع على كلِّ جبلٍ بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها، وهو خلاف الظاهر، وأيضاً في قوله :﴿ يَأْتِينَكَ سَعْياً ﴾ عائد إليها، لا إلى أجزائها، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض، كان الضمير في « يَأْتِينَكَ » عائداً إلى أجزائها لا إليها.


الصفحة التالية
Icon