لمَّا بين تعالى أصل العلم بالمبدأ، والمعاد، وبيَّن دلائل صحَّتها، أتبع ذلك ببيان الشرائع، والأحكام، فبدأ ببيان التكليف، بالإنفاق.
قال القاضي في كيفية النَّظم : إنه تعالى لمَّا أجمل قوله تعالى ﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] فصل بهذه الآية الكريمة تلك الأضعاف، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلَّة على قدرته بالإحياء والإماتة، من حيث : لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب، لكان الإنفاق، وسائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق : قد عرفت أنِّي خلقتك، وأكملت نعمتي عليك، بالإحياء، والإقدار، وقد علمت قدرتي على المجازاة، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال؛ فإنه يجازي القليل بالكثير، ثمَّ ضرب لذلك الكثير مثلاً.
وقال الأصم : إنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتجّ على الكلِّ بما يوجب تصديق النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ ليرغبوا بالمجاهدة بالنفس، والمال، في نصرته، وإعلاء شريعته.
وقيل : لما بيَّن تعالى أنَّه وليُّ المؤمنين، وأن الكفَّار أولياؤهم الطاغوت، بيَّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله، وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت.

فصل في سبب نزول الآية


[ روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفَّان، وعبد الرحمن بن عوف ] - رضي الله عنهما -؛ « وذلك أنَّ رسول الله - ﷺ - لما حثَّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة » تَبُوك «، جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم، فقال : يا رسول الله، كان عندي ثمانية آلافٍ، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلافٍ، وأربعة آلافٍ أقرضتها لربِّي، فقال رسول الله - ﷺ - :» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ « وقال عثمان : يا رسول الله، عليَّ جهاز من لا جهاز له؛ فنزلت هذه فيهما.
وروى البستي عن ابن عمر، قال :»
لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - ﷺ - :« رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي » ؛ فنزلت :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] قال ﷺ :« رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي »، فنزلت ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ].
قوله « مَثَلُ » مبتدأُ، و « كَمَثَلِ حَبَّةٍ » خبره. ولا بدَّ من حذفٍ، حتى يصحَّ التشبيه؛ لأنَّ الذين ينفقون لا يشبَّهون بنفس الحبة.
واختلف في المحذوف، فقيل : من الأول، تقديره : ومثل منفق الذين، أو نفقة الذين.
وقيل : من الثاني، تقديره : ومثل الذين ينفقون كزارع حبةٍ؛ أو من الأول، والثاني باختلاف التقدير، أي : مثل الذين ينفقون، ونفقتهم كمثل حبَّةٍ وزارعها.
وهذه الأوجه قد تقدَّم تقريرها محررةً عند قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon