وأتى في هذه الآياتِ كلِّها بلفظ الإِصابة نحو فأصابه وَابِلٌ، وأَصابَه الكِبَر، فأصابها إعصارٌ؛ لأنه أبلغُ، وأَدَلُّ على التأثير بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيء، من أنه لم يُذكر بلفظ الإِصابة، حتى لو قيل :« وَبَل »، و « كَبِر »، و « أَعْصَرَتْ » لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ.
والإِعصارُ : الريحُ الشديدةُ المُرتفعةُ، وتُسَمِّيها العامَّةُ : الزَّوبعة. وقيل : هي الريحُ السَّموم، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ، حكاه المهدوي. وقيل : لأَنها تَعْصِر السَّحابَ، وتُجمع على أَعَاصير، قال :[ البسيط ]

١٢٢٦أ- وَبَيْنَما المَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ إِذْ هُوَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ
والإعصارُ من بين سائر أسماءِ الريحِ، مذكرٌ، ولهذا رجع إليه الضمير مذكَّراً في قوله :« فيه نارٌ ».
و « نَارٌ » يجوز فيه الوجهان : أعني الفاعلية، والجارُّ قبلها صفةٌ ل « إِعْصار » والابتدائية، والجارُّ قبلها خبرها، والجملة صفةُ « إِعْصارٌ »، والأول أَولى؛ لما تقدَّم من أنَّ الوصف بالمفرد أَولى، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة.
قوله :﴿ فاحترقت ﴾ أي : أحرقها، فاحترَقَتْ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي، وأمَّا « حَرَقَ » من قولهم :« حَرَقَ نابُ الرجُلِ » إذا اشتدَّ غيظهُ، فيُستعمل لازِماً، ومتعدِّياً، قال :[ الطويل ]
١٢٢٦ب- أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابُهُ عَلَيْه فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ
رُوي برفع « نَابهُ » ونصبه، وقوله ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات ﴾ إلى آخره قد تقدَّم نظيرُه.

فصل


قال عبيد بن عمير : قال عمر - رضي الله عنه - لأصحاب النبي - ﷺ - فيمن ترون هذه الآية نزلت ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ ؟ قالوا : الله أعلم، فغضب عمر - رضي الله عنه - فقال : قولوا : نعلم، أو لا نعلم، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر - رضي الله عنه - يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : ضُرِبَت مثلاً لعمل فقال عمر : أيُّ عملٍ؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لعمل منافقٍ، ومراءٍ، قال عمر - رضي الله عنه - : لأي رجل؟ قال لرجل غني يعمل بطاعة الله، بعث الله له الشيطان؛ فعمل بالمعاصي؛ حتى أحرق أعماله.
وقال المفسّرون : هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعمل المنافق، والمرائي، يقول : عمله في حسنه كحسن الجنَّة، كما ينتفع صاحب الجنَّة بالجنة.
﴿ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ وإنما خصهما بالذكر؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظراً حيث تكون باقيةً على الأشجار، ووصف تلك الجنَّة بأن الأنهار تجري من تحتها، وذلك زيادةٌ في الحسن، وأنَّ فيها من كلِّ الثمرات، وهذا سبب لكمال حال هذه الجنَّة من الرؤية، والمنظر، وكثرة النَّفع، والرَّيع، ولا يمكن الزيادة على ذلك، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولادٌ ضعافٌ، أي : بسبب الصِّغر، والطفوليَّة، فإنه إذا صار كبيراً؛ عجز عن الاكتساب، وكثرت جهات حاجاته في مطعمه، وملبسه، ومسكنه، ومن يقوم بخدمته، وتحصيل مصالحه، فإذا تزايدت حاجاته، وتناقصت جهات مكسبه، أصاب جنَّته إعصار فيه نارٌ فاحترقت، وهو أحوج ما يكون إليها، وضعف عن إصلاحها؛ لكبره، وضعف أولاده عن إصلاحها؛ لصغرهم، فلم يجد هو ما يعود به على أولاده، ولا أولاده ما يعودون به عليه، فبقوا جميعاً متحيرين عجزةً لا حيلة بأيديهم، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق، والمرائي حيث لا مغيث لهما، ولا توبة، ولا إقالة، ونظير هذه الآية الكريمة ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ﴾ [ الزمر : ٤٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ].


الصفحة التالية
Icon