اعلم أنه تعالى لما ذكر الانفاق على قسمين، وبين كل قسم وضرب له مثلاً، ذكر في هذه الآية كيفية الإِنفاق.
قوله تعالى :﴿ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ : في مفعول « أَنْفِقُوا » قولان :
أحدهما : أنه المجرور ب « مِنْ »، و « مِنْ » للتبعيض، أي : أنفقوا بعض ما رزقناكم.
والثاني : أنه محذوفٌ قامت صفته مقامه، أي : شيئاً ممَّا رزقناكم، وتقدَّم له نظائر.
و « ما » يجوز أن تكون موصولةً اسمية، والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط، أي : كسبتموه، وأن تكون مصدريةً أي : من طيِّبات كسبكم، وحينئذٍ لا بدَّ من تأويل هذا المصدر باسم المفعول، أي : مكسوبكم، ولهذا كان الوجه الأول أولى.
و ﴿ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا ﴾ عطفٌ على المجرور ب « مِنْ » بإعادة الجار، لأحد معنيين : إمَّا التأكيد، وإمَّا للدلالة على عاملٍ آخر مقدرٍ، أي : وأنفقوا ممَّا أخرجنا. ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي : ومن طيبات ما أخرجنا. و « لكم » متعلِّقٌ ب « أخرجنا »، واللام للتعليل. و « مِنَ الأرض » متعلِّقٌ ب « أخرجنا »، و « مِنْ » لابتداء الغاية.
قوله :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث ﴾ الجمهور على « تَيَمَّموا »، والأصل : تتيمموا بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفاً : إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية، وقد تقدّم تحريره عند قوله :﴿ تَظَاهَرُونَ ﴾ [ البقرة : ٨٥ ].
وقرأ البزِّيُّ هنا وفي مواضع أُخر بتشديد التاء، على أنه أدغم التاء الأولى في الثانية، وجاز ذلك هنا وفي نظائره؛ لأنَّ الساكن الأول حرف لين، وهذا بخلاف قراءته ﴿ نَاراً تلظى ﴾ [ الليل : ١٤ ] ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ﴾ [ النور : ١٥ ] فإنه فيه جمع بين ساكنين، والأول حرفٌ صحيحٌ، وفيه كلامٌ لأهل العربية، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
قال أبو علي : هذا الإدغام غير جائزٍ؛ لأنَّ المدغم يسكَّن، وإذا سكِّن، وجب أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي، نحو ﴿ فادارأتم ﴾ [ البقرة : ٧٢ ] و ﴿ ارتبتم ﴾ [ المائدة : ١٠٦ ] و ﴿ اطيرنا ﴾ [ النمل : ٤٧ ].
لكن أجمعوا على أنَّ همزة الوصل لا تدخل على المضارع.
وقرأ ابن عباس، والزُّهريُّ « تُيَمِّمُوا » بضم التاء، وكسر الميم الأولى، وماضيه : يمَّم، فوزن « تُيَمَّمُوا » على هذه القراءة : تفعِّلوا من غير حذفٍ، وروي عن عبدالله « تُؤَمِّموا » من أمَّمت، أي : قصدت.
والتيمم : القصد، يقال : أمَّ ك « رَدَّ »، وأمَّم ك « أخَّر »، ويمَّم، وتيمَّم بالتاء، والياء معاً، وتأمَّم بالتاء والهمزة. وكلُّها بمعنى قصد. وفرَّق الخليل - رحمه الله - بينها بفروقٍ لطيفةٍ، فقال :« امَّمْتُه أي قصدت أمامه، ويمَّمْتُه : قصدته من أيِّ جهةٍ كان ».
والخبيث والطيب : صفتان غالبتان، لا يذكر موصوفهما؛ قال تعالى :﴿ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ ﴾ [ النور : ٢٦ ]، ﴿ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ]، قال ﷺ :


الصفحة التالية
Icon