« لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة أَوْسُق صَدَقَةٌ ».
أما المعدن والرِّكازُ فقال - ﷺ - :« العَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، والمعْدنُ جُبَارٌ، وفي الرِّكاز الخمسُ » الجبار : الهدر الذي لا شيء فيه، والعجماء : الدَّابَّة، والرِّكاز : هو ما دفنه أهل الجاهلية وعليه علامتهم.
فصل
اختلفوا في الطِّيب : فقيل : هو الجيد، فعلى هذا يكون الخبيث هو الرديء. وقال ابن مسعودٍ، ومجاهدٌ، والسدّي : الطيب هو الحلال، وعلى هذا، فالخبيث هو الحرام.
حجة الأول ما ذكرنا في سبب النزول، ولأن المحرم لا يجوز أخذه؛ لا بإغماضٍ ولا غيره، والآية تدلُّ على جواز أخذه بالإغماض.
قال القفَّال - رحمه الله - : ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الإغماض : المسامحة، وترك الاستقصاء، فيكون المعنى : ولستم بآخذيه، وأنتم تعلمون أنه محرَّم؛ إلاَّ أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالون من أيِّ وجهٍ أخذتم المال أمن حلالٍ، أم حرام.
واحتجُّوا - أيضاً - بقوله تعالى :﴿ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [ آل عمران : ٩٢ ] وذلك يؤكد أنَّ المراد بالطيب هو النَّفيس الذي يستطاب تملكه، لا الخسيس الذي يرفضه كل أحد واحتجَّ القاضي للقول الثاني : بأنَّا أجمعنا على أن الطِّيب في هذه الآية؛ إمَّا الجيد؛ وإما الحلال، فإذا بطل الأول، تعيَّن الثاني.
وإنما قلنا : بطل الأول؛ لأن المراد لو كان هو الجيد، لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيِّد سواءٌ كان حلالاً أو حراماً، وذلك غير جائزٍ، والتزام التخصيص خلاف الأصل؛ فتعين الحلال.
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يذكر فيه قولٌ ثالثٌ، وهو : أن المراد من « الطِّيِّب » - هاهنا - ما يكون طيِّباً من كلِّ الوجوه، فيكون طيّباً بمعنى : الحلال، ويكون طيِّباً بمعنى : الجودة، وليس لقائلٍ أن يقول إنَّ حمل اللفظ المشترك على مفهوميه، لا يجوز؛ لأنا نقول : الحلال إنما يسمى طيِّباً؛ لأنه يستطيبه العقل، والدِّين، والجيد : إنما يسمَّى طيباً؛ لأنه يستطيبه الميل، والشهوة. فمعنى الاستطابة مفهومٌ واحدٌ مشترك بين القسمين، فكان اللفظ محمولاً عليه. إذا ثبت أنَّ المراد منه الجيد الحلال؛ فنقول : الأموال الزكاتيَّة إما أن تكون كلُّها شريفةً، أو كلها خسيسةٌ، أو تكون متوسطة أو مختلطة، فإن كان الكل شريفاً، كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك، وإن كان الكل خسيساً، كانت الزكاة كذلك، أيضاً، ولا يكون ذلك خلافاً للآية؛ لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إذا كان في المال جيد ورديء، فحينئذٍ يقال للإنسان : لا تجعل الزكاة من رديء مالك، وأمَّا إن كان المال مختلطاً، فالواجب هو الوسط، « قال - ﷺ - لمعاذٍ حين بعثه إلى اليمن :» إِيَّاكَ وكَرَائِمَ أَمْوَالهمْ « وأما إن قلنا : المراد صدقة التطوع أو كلاهما، فنقول : إنَّ الله تعالى ندبهم إلى التقرُّب إليه بأفضل ما يملكونه، كمن يتقرب إلى السُّلطان بتحفة، وهدية، فلا بدّ وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه، فكذا - هاهنا -.