قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ ﴾ الآية : في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ :
أحدها :- وهو الظاهر - أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ، يدلُّ عليه سياق الكلام، واختلفت عبارات المعربين فيه، فقال مكي - ولم يذكر غيره - :« أَعْطُوا لِلْفقراءِ »، وفي هذا نظرٌ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل : إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى :﴿ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ [ يوسف : ٤٣ ]، وإمَّا لكونه فرعاً؛ نحو قوله تعالى :﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ هود : ١٠٧ ] ويبعد أن يقال : لمَّا أُضمر العاملن ضعف؛ فقوي باللام، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك، وإن لم يضعف العامل، وجعل منه ﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾ [ النمل : ٧٢ ]، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقدَّره أبو البقاء :« اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ » وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب. وقدَّره الزمخشريُّ :« اعْمدُوا، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء » والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي، لكن فيه ما تقدَّم.
الثاني : أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف، تقديره : الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات، قالوا : فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء، وفيها بيان مصرف الصَّدقات. وهذا اختيار ابن الأنباري.
قال ابن الخطيب : لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق، قال بعدها « لِلْفُقَرَاءِ » أي : ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل، فتقول : عاقلٌ لبيبٌ، والمعنى : أن ذلك الذي مرَّ وصفه عاقلٌ لبيبٌ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس يجعلون فيه الذهب، والفضَّة : ألفان، أو مائتان، أي : ذلك الذي في الكيس ألفان، أو مائتان.
وأنشد ابن الأنباري :[ الرجز ]

١٢٣٧- تَسْأَلُنِي عَنْ زَوْجِهَا أَيُّ فَتَى خبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى
يريد : هو خبٌّ.
الثالث : أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى :﴿ إِن تُبْدُواْ الصدقات ﴾ [ البقرة : ٢٧١ ] وهو مذهب القفَّال، واستبعده الناس؛ لكثرة الفواصل.
الرابع : أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى :﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ وفي هذا نظرٌ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب، فيصير نظير قولك : مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك، معلِّلاً بما ذكرناه، فقال : وَلاَ يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام « تنفقوا » الأخير في الآية المتقدمة الكريمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل، والمعمول بما ليس منه، كما لا يجوز :« كانَتْ زَيْداً الحُمَّى تأخُذُ ».
الخامس : أنَّ « للفقراء » بدلٌ من قوله :« فلأَنْفُسِكُمْ »، وهذا مردودٌ؛ قال الواحدي، وغيره :« لأنَّ الإنفاق من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من باب ﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] ؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً » قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس، ولا جزاءً منها، ولا مشتملةً عليها، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon