﴿ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٩ ] في أحد التأويلين.
والفقير : قيل : أصله من « فَقَرَتْه الفَاقِرَةُ »، أي : كسرت فقارات ظهره الداهية. قال الراغب : وأصل الفقير : هو المكسُورُ الفقار، يقال :« فَقَرَتْه الفاقرةُ » أي : الداهية تكسر الفقار، و « أَفْقَرَكَ الصَّيْدُ [ فَارْمِهِ » ] أي أمكنك من فقاره، وقيل : هو من الفُقرة، أي : الحفرة، ومنه قيل لكلِّ حفرةٍ يجتمع فيها الماء، فقيرٌ : وفقرت للفسيل : حفرت له حفرة؛ غرسته فيها؛ قال :[ السريع أو الرجز ]
١٢٣٨- مَا لَيْلَةُ الفَقِيرِ إِلاَّ شَيْطَانْ... قيل : هو اسم بئر، وفقرت الخرز : ثقبته.
وقال الهروي : يقال « فَقَره » إذا أصاب فقار ظهره، نحو : رَأَسَه، أي : أصاب رأسه، وبَطَنَهُ، أي : أصاب بطنه. وقال الأصمعي :« الفقر : أن يحزَّ أنف البعير، حتى يخلص الحزُّ إلى العظم، ثم يلوي عليه جريراً يذلَّل به الصَّعب من الإبل، ومنه قيل : عمل به الفاقرة ». والفقرات - بكسر الفاء، وفتح القاف - : جمع فقرة : الأمور العظام، ومنه حديث السَّعي :« فِقَراتُ ابن آدَم ثلاثٌ : يَوْمَ وُلِد، ويومَ يَمُوتُ، ويومَ يُبْعَثُ ». والفقر - بضم الفاء، وفتح القاف - : جمع فقرة؛ وهي الحزُّ، وخرم الخطم، ومنه قول أبي زيادٍ :« يُفْقَرُ الصَّعْبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خطْمِه » ومنه حديث سعدٍ :« فَأَشَارَ إلى فُقَرٍ في أنْفِهِ »، أي : شقٍّ، وحزِّ. وقد تقدَّم الكلام في الإحصار عندق وله :« فإن أحصرتم ».
قوله :﴿ فِي سَبِيلِ ﴾ في هذا الجار وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بالفعل قبله؛ فيكون ظرفاً له.
والثاني : أن يكون متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من مرفوع « أُحصروا »، أي : مستقرين في سبيل الله. وقدَّره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله، فهو تفسير معنًى لا إعراب؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق.
فصل في بيان سبب النزول
نزلت في فقراء المهاجرين، وكانوا نحو أربعمائةٍ، وهم أصحاب الصُّفَّة، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد؛ يتعلمون القرآن الكريم، ويرضخون النوى بالنهار ويخرجون في كل سريَّةٍ يبعثها رسول الله - ﷺ - فحث الله عليهم الناس؛ فكان من عنده فضلٌ أتاهم به، إذا أمسى.
« عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : وقف رسول الله - ﷺ - يوماً على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم، وجهدهم؛ فطيَّب قلوبهم، فقال :» أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فإنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِياً بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رُفَقَائِي « واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفاتٍ :
الأولى : قوله :﴿ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله ﴾ والإحصار : أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره من مرضٍ، أو كسرٍ، أو عدوٍّ، أو ذهاب نفقةٍ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء، يقال : أحصر الرجل : فهو محصرٌ، وفي معنى هذا الإحصار، وجوه :
الأول : أنَّهم حصروا أنفسهم، ووقفوها على الجهاد؛ لأن قوله :﴿ فِي سَبِيلِ الله ﴾ مختصٌّ بالجهاد في عرف القرآن.